Thursday, January 27, 2005

الباحثات عن الحرية : إيناس الدغيدى وعمل إبداعى بكل المقاييس

أتيح لى مؤخرا مشاهدة أخر الأعمال السينمائية للمخرجة المصرية المعروفة إيناس الدغيدى وهو فيلم " الباحثات عن الحرية " ، وذالك بعد طرحة فى دور العرض السينمائى مع بداية عيد الأضحى المبارك ، وكانت الشائعات التى تلوكها الألسنة بشكل مرضى وأخذت فى النيل من هذا العمل ومن مخرجتة - وأغلبها لاأ ساس لة من الصحة - قد إنتشرت بين الجمهور وحتى قبل عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى قبل حوالى شهر ، وأخذ البعض يطالب أجهزة الرقابة بعدم إجازة عرض هذا الفيلم ، بل وأخذ البعض يتهم المخرجة بتقديمها مشاهد إباحية ضمن أحداث الفيلم لاعلاقة لها بمحتوى الموضوع إلى آخر هذة الاتهامات التى كانت تكال بشكل غريب إلى الفيلم ومخرجتة نظرا لتاريخها السينمائى المعروف بالجرأة وعدم وضع أى إعتبار للخطوط الحمراء وعادات ومألوفات وتقاليد العرب .
وبعد هذة الموجه من الإنتقادات شديدة اللهجة ، فجر الفيلم مفاجأة من العيار الثقيل بحصول مخرجتة على جائزة أحسن فيلم لموسم 2004 فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الأمر الذى ساهم فى الحد من جدوى الشائعات التى أثاؤها البعض حول الفيلم .
فى البدايه تصطحبنا المخرجة فى جولة مع إحدى بطلات فيلمها - التى تعمل صحفية - فى شوارع باريس 1989، تسير هذة الصحفية ( نيكول بردويل ) حاملة كاميرتها متصفحة وجوة العابرات فيها باحثة عن الملامح العربية المهاجرة الى تلك البلاد التى إنبهر بها قبل أكثر من مائة وخمسين عاما الشيخ الأزهرى المعمم رفاعة رافع الطهطاوى ودفعه فضوله الشديد إلى معرفة الكثير عن أحوال هذه البلاد وأهلها وعاداتهم وثقافتهم وأساليب حياتهم مدونا ذالك كله فى كتابه الذى زاعت شهرته فيما بعد " تخليص الإبريز فى تلخيص باريز " فاتحا بذالك صفحة جديدة من الحوار بين العرب والغرب .
تستوقف أمل - وهو إسم هذه الصحفيه - عددا من الوجوه النسائيه الشابه التى توحى ملامحها بالإنتماء الى الوطن العربى ، طارحة عليهن أسئلة تستفهم من خلالها عن الأسباب التى دفعت بكل منهن الى الهجرة الى هذه البلاد .
تتعدد الإجابات التى تحمل كل منها فى طياتها أسبابا متعدده جعلت كل منهن يفضلن العيش فى فرنسا على البقاء فى بلادهن وإن اتفقن جميعا على سبب واحد يبرر لهن العيش مغتربات فى دولة تحفظ للإنسان حقوقه كاملة وتصون له حريته دون أن يجرؤ أحد أن يمسها بسوء طالما أنها لاتتعارض مع حرية الآخر ، الأمر الذى إفتقدنه فى بلادهن ورحن يبحثن عنه فى تلك البلاد .
تختار لنا المخرجة من ضمن هذه الوجوه الكثيره التى قابلتها بطلتها وجهين آخرين إضافة الى تلك الصحفيه كى تبرز لنا من خلال أسلوب حياتهن مفهومها عن الحريه وكيفية البحث عنها والتمتع بها فى هذه البلاد الحره .
ثلاثة وجوه شابه ، يجمعهن البحث عن الحريه الشىء الذى افتقدنه قبل أن تطؤ أقدامهن هذه البلاد ، وتجمعهم أيضا صداقتهن الحميمه التى تجمع بين كل منهن كنوع من التضامن الإجتماعى الذى يميز النساء فى سائر المجتمعات الإنسانيه .
فالوجه الأول الذى تقدمه إيناس الدغيدى لنا فى فيلمها هو شخصية عايده ( داليا البحيرى ) ، فنانه تشكيليه شابه ، دفعها نجاحها فى بلدها مصر وحصولها على العديد من الجوائز عن أعمالها الفنيه الى التفكير فى السفر الى الخارج حيث فرص النجاح الكثيره المتاحه أمامها هناك ، والإهتمام الكبير الذى توليه الدوائر الثقافيه الفرنسيه للمبدعين الشباب وتشجيعهم على المضى قدما فى إبداعاتهم الفنيه ، ولكن إصطدام رغبتها فى السفر الى الخارج برغبة زوجها فى ابقائها بمصر دفعها الى التضحية به وإرغامها على ترك إبنها الصغير " تامر " وعدم السماح لها بزيارته .
تلتقى عايده فى باريس بالصحفيه اللبنانيه أمل ( نيكول بردويل ) والتى تقوم بتعريفها الى صديقتها المغربية سعاد ( سناء موزيان ) ، سرعان ماتتوطد أواصر الصداقه بين الثلاثى المكون لأبطال الفيلم لتساهم هذه العلاقة فى تفعيل الدور النسائى فى الأحداث الخاصه بكل منهن على حده .
تعمل أمل فى إحدى الصحف العربية التى تصدر فى باريس ، وقد هلجرت أمل الي فرنسا هربا من جحيم الحرب الأهليه الذى يجتاح بلدها لبنان - فى ذالك الوقت - وهربا من الجحيم الذى عاشته عقب إختطاف الشاب اللبنانى الذى أحبته على يد الميليشيات المسلحة هناك .
تقوم أمل بتحرير الصفحة الفنية بالصحيفة ويشاركها فى العمل زميلها المصرى كمال ( هشام سليم ) وزميل سودانى يدعى عبد الله .
يقوم بتمويل الصحيفة بشاره أبو زعتر أحد زعماء الحرب اللبنانيين والمعروف بإنحرافه الجنسى وملفاته القذره ، ويطلب منها رئيس التحرير مقابلة هذا الزعيم وتتردد أمل فى البداية بين القبول والرفض بعدما علمت من كمال الهدف الذى يرمى اليه رئيس التحرير من مقابلتها لبشاره .
تتوطد العلاقة بين أمل وكمال وتتحول الى نوع من الحب المتبادل بينهما وإن كدر صفو هذه العلاقة - أحيانا - ذكريات حبيبها اللبنانى الذى لم تعد تعلم عنه شيئا بعد إختطافه الحرب ، إلا أنها سلمت بعد ذالك بمقتله وتمسكت بحبها لزميلها كمال .
يستقر رأى أمل - بعد إلحاح رئيس التحرير - على مقابلة بشاره إيمانا منها بقدرتها على مواجهة الرجل وعدم قدرته على الإيقاع بها ، وبالفعل تذهب اليه أمل وتقابله وتتضح لها صورا من الخسة والحقارة الصفتان الملازمتان لهذا الرجل الذى حول الصحيفة بأمواله الى بوق دعاية له من جهة ، كما حولها الى ماخور يستجلب منه متعته الخاصة من جهة أخرى .
عندما تعود أمل مكن من المقابله ، وعند مرورها بالسياره على برج إيفل تنهار قواها عندما تشاهد جثة زميلها السودانى عبدالله ملقاة أسفل البرج بعد إنتحاره من فوقه إحتجاجا على تصرفات رئيس التحرير الذى تحول إلى قواد يلبى الرغبات الدنيئة لممول الصحيفه .
تؤثر هذه الحادثة على نفسية أمل وتجعلها ترفض مقابلة بشاره وتزداد عندا وتعنتا إصرارا على موقفها برفضها الرد على مكالماته الهاتفيه مما جعله ينتقم منها بأن إستدرجها إلى مكان مظلم وإغتصبها بمساعدة آخرين قبيل أن يطلق الرصاص على قدمها .
أما الوجه الثالث الذى تقدمه لنا المخرجة فهو شخصية سعاد الفتاة المغربية التى لم تتلق قدرا كافيا من التعليم وأجبرتها ظروفها على الهجرة الى باريس والحياة فى شوارعها كبائعة للهوى قبيل أن تتلقفها يد أحد أصحاب المحلات التجاريه الذى ينتمى الى احدى دول الشمال الإفريقى ( على حسب مايتضح من لهجته ) ويجعلها تعمل عنده ثم يضمها الى أملاكه الخاصه بالحد الزائد من حريتها وإستغلالها جنسيا فى متعته الناقصه وهو الكهل العنين .
تتعرف سعاد على عايده عن طريق صديقتها امل وتتوطد أواصر الصداقه بينهما عندما أعجبت عايده ببعض ملامحها التى رأت أنها تصلح للوحه فنيه ، وإستأذنتها أن تقوم برسم لوحات لها إلا أن الفتاه تحتج بأن صاحب العمل لايسمح لها بالذهاب لمدة طويله ، فتذهب عايدة اليه وتنجح فى إقناعه بالأمر مما يجعلها تخلو بسعاد عدة ساعات يوميا تتمكن فيها من رسم بعض اللوحات لها ومعرفة المذيد عنها .
تنشأ قصة حب بين سعاد وروجيه - الشاب الفرنسى الذى يعمل فى المحل المقابل - إلا أن لقاءاتهما تصير شبه مستحيلة لأن صاحب العمل كان ينهرها كلما شاهدها تقف معه مما جعلها وبناءا على نصيحة صديقتيها أن تطالب الرجل بإعطائها حقوقها وقامت بالضغط عليه حتى وافق أن يحرر لها شيكا بمبلغ مالى لا بأس به .
ويقيم لها الرجل حفلا تدعو اليها صديقاتها وتظهر موهبتها الغنائيه فى الحفل عندما تغنى إحدى أشهر أغانى الراحلة أسمهان ( ليالى الأنس فى فيينا ) مما دفع أحد المنتجين الفنيين الذى كان متواجدا أثناء الحفل إلى أن يهمس لها فى أذنها عن استعداده لاكتشافها فنيا إن أرادت ، وسرعان ماينتهى شهر العسل بين سعاد وصاحب العمل بعدما قام بسرقة الشيك منها وطردها من شقته بصورة مهينه .
تلجأ الفتاة إلى المنتج المصرى الذى وعدها باكتشاف موهبتها وجعلها أميرة الغناء فى باريس وتنجح سعاد فى عملها الجديد ، إلا أنها تفاجىء بأن المنتج يستغلها جنسيا بتقديمها الى الأثرياء العرب فترفض هذا الوضع مما يدفع المنتج الى محاولة إغتصابها قبل أن تهرب من بين يديه .

تتفاعل الأحداث وتربط المصير المشترك للثلاثى الباحث عن الحريه فى بلاد سمعوا عنها الكثير من إحترام لحرية الإنسان وصون لحقوقه الأمر الذى افتقدوه فى بلادهم وذهبوا للبحث عنه فيما وراء البحار .
تتعرف عايده على مهندس مصرى يقيم فى باريس يدعى عمر ( أحمد عز الدين ) ، وتتطور العلاقة بينهما من إعجاب منه بإحدى لوحاتها إلى دعوتها على العشاء الى حب جارف ربطها به وجعلها تفكر - بحكم انتماءه الى مصر - فى بلدها وفلذة كبدها الذى خلفته هنالك مع مطلقها .
تفكر عايده فى العودة الى مصر وتخبر عمر بذالك فيحاول عمر أن يثنيها عن عزمها إلا أنها تعده بالعودة سريعا بعد حصولها على طفلها .
تعود عايده الى مصر وتلتقى طفلها " تامر " الذى تعرف عليها سريعا وتعلق بها كثيرا الأمر الذى ساهم فى الضغط على والده وجعله يستسلم لها تاركا الطفل يذهب معها .
وتلجأ سعاد فى اللحظة الأخيره الى حبيبها روجيه وتنتهى قصتها أو بمعنى أدق تبدأ الصفحة الجديدة من حياتها بمفاجأة ساره عندما تكتشف أن حبيبها من أصل جزائرى وأن والدته مسلمة جزائريه ، وينتهى دورهما بقراءتهما سويا لسورة الفاتحه تمهيدا لبدء حياتهما الجديدة معا .
أما أمل فتفاجىء بسفر كمال الى لبنان بعد استبعاد رئيس التحرير له من عمله دون أن تعلم السبب المباشر عن إختياره للبنان بالذات ويعدها قبل سفره بأ يكون معها عندما تريده .
وعندما تشفى من الرصاصة التى أطلقت عليها تقرر الإنتقام من بشاره وتذهب اليه بعدما أظهرت خضوعها له مبيتة النيه على التخلص منه ، وفى غمرة ممارسته للجنس معها تخرج مطواة من حقيبتها تضع بها حدا فاصلا لحياته ، ثم تخرج من حجرته شبه متماسكة وهى تخبر الحراس بأن زعيمهم نائم ويرغب فى أن لايوقظه أحد ، ثم تطلب من سائق السيارة أن يوصلها الى مطار شارل ديجول .
تعود أمل الى لبنان وتلتقى هناك بكمال ، وتذهب الى الكنيسة برفقته دون أن تعلم شيئا عن المفاجأة التى أعدها لها هناك وهى السبب الذى جعله يعود الى لبنان حيث قدم لها حبيبها الغائب الذى افتقدته فى غمار الحرب الأهليه .
تقف أمل حائرة بين كمال وبين حبيبها الذى إلتقته بعد غياب وتنهى المخرجة فيلمها على هذا المشهد التى تظهر فيه بطلتها حائرة بين حبيبيها تاركة لها حرية المفاضلة والاختيار فيما بينهم .
ركزت المخرجة على أهداف رئيسية أرادت أن توصلها الى الأذهان عن طريق أحداث الفيلم ، فهى ترى أن الحرية لا تتقيد ببعد جغرافى معين وانما يجب أن تكون نابعة من داخل الشخص الذى يبحث عنها .
وتقدم المخرجة توضيحا عمليا لإحدى وجهات نظرها عن العلاقة بين أسلوب ممارسة الجنس وأسلوب الحياة الذى يعيشه الشخص ، فهى تظهر أمل التى تعرضت لأنواع كثيرة من العنف خلال حياتها عنيفة مع شركائها أثناء ممارستها للجنس معهم ، بينما الفنانة عايده هادئة الطباع تظهرها تمارس الجنس بصوره هادئه تعبر عن طبعها الهادىء وحياتها المستقره ، فأسلوب ممارسة الجنس يعد مرآة لحياة كل شخص يمكن من خلاله معرفة أسلوب حياته وكيفية تفاعله مع الآخرين وقد تكون معبرة عما يجول فى خواطره وأعماقه دون أن يصرح هو بذالك ، فالجنس - فعلا - هو لغة يمكن التفاهم بها بين الشريكين عندما يعجز كل منهما عن الإفصاح عما فى داخله تجاه الآخر .
أما بالنسبة لمشاهد الجنس التى وردت ضمن أحداث الفيلم فإن الاعتراض عليها لمجرد انها مشاهد جنسيه يعد نوعا من وضع العراقيل أمام الأسلوب الذى يتبعه المخرج فى التعبير عن الرسالة التى يريد أن يوصلها من خلال الفيلم ، ومشاهد الجنس فى الفيلم لم تضعها المخرجة عبثا أو لجذب أكبر عدد من الجمهور الى شباك التذاكر - كما يدعى البعض - وإنما هى موظفة ضمن أحداث الفيلم وتخدم السياق الذى تقدمه لنا المخرجة فى الفيلم وإذا تم حذف هذه المشاهد من الفيلم فإنه سيصبح بلا معنى مفهوم لربطه بين الأحداث الرئيسيه فى الفيلم .
وتقدم لنا المخرجة صورة مؤسفة للأسلوب الذى يتعامل به العرب مع المكان الذى هاجروا اليه ، فهم لم يكتفوا بنقل أنفسهم الى هناك وإنما نقلوا معهم بعض أمراضهم المعدية التى جائوا بها معهم من المشرق العربى ، ويتضح هذا جليا فى المتاعب التى تعرضت لها كل فتاة من هؤلاء ، فجميع هذه المتاعب كان السبب الرئيسى فيها بعض أبناء جلدتهم من العرب ، بينما على العكس من ذالك تماما نجد الفرنسيين يمدون لهم يد العون ويساعدونهم على الترقى فى سلم الإبداع ويهنئونهم على نجاحاتهم التى حققوها هناك .
فالفيلم تجربة فريدة من نوعها بل هو مغامرة ناجحة خاضتها مخرجته فى جو خانق من افلا التردى الفكرى التى تسيطر على الساحه الفنيه حاليا ( اللمبى وعوكل وزكى شان وخلافه ...) ، وهو كذالك يعد كسرا للتابوهات العتيقه التى تقبع فى داخلها السينما العربيه التى يحرم عليها الاقتراب من الثلاثى المحرم الدين والسياسة والجنس ، فايناس فى فيلمها هذا إستطاعت تجاوز جميع الخطوط الحمراء ضاربة بمقص الرقيب وسلطة الحاكم وتقاليد العرب عرض الحائط .
ختاما : أهدى كل تحياتى الى الفنانة الكبيرة والمبدعة العظيمه إيناس الدغيدى متمنيا لها دوام التوفيق والاستمرار فى مشوارها الابداعى وأن نرى أعمالها دائما تتصدر قائمة الأعمال السينمائية معبرة بواقعية وصدق عما يجول فى خواطرنا وما تسرح فيه أخيلتنا كما عهدناها دائما .
عبدالكريم نبيل سليمان
الاسكندريه فى : 26/1/2001

الباحثات عن الحرية : إيناس الدغيدى وعمل إبداعى بكل المقاييس

أتيح لى مؤخرا مشاهدة أخر الأعمال السينمائية للمخرجة المصرية المعروفة إيناس الدغيدى وهو فيلم " الباحثات عن الحرية " ، وذالك بعد طرحة فى دور العرض السينمائى مع بداية عيد الأضحى المبارك ، وكانت الشائعات التى تلوكها الألسنة بشكل مرضى وأخذت فى النيل من هذا العمل ومن مخرجتة - وأغلبها لاأ ساس لة من الصحة - قد إنتشرت بين الجمهور وحتى قبل عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى قبل حوالى شهر ، وأخذ البعض يطالب أجهزة الرقابة بعدم إجازة عرض هذا الفيلم ، بل وأخذ البعض يتهم المخرجة بتقديمها مشاهد إباحية ضمن أحداث الفيلم لاعلاقة لها بمحتوى الموضوع إلى آخر هذة الاتهامات التى كانت تكال بشكل غريب إلى الفيلم ومخرجتة نظرا لتاريخها السينمائى المعروف بالجرأة وعدم وضع أى إعتبار للخطوط الحمراء وعادات ومألوفات وتقاليد العرب .
وبعد هذة الموجه من الإنتقادات شديدة اللهجة ، فجر الفيلم مفاجأة من العيار الثقيل بحصول مخرجتة على جائزة أحسن فيلم لموسم 2004 فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الأمر الذى ساهم فى الحد من جدوى الشائعات التى أثاؤها البعض حول الفيلم .
فى البدايه تصطحبنا المخرجة فى جولة مع إحدى بطلات فيلمها - التى تعمل صحفية - فى شوارع باريس 1989، تسير هذة الصحفية ( نيكول بردويل ) حاملة كاميرتها متصفحة وجوة العابرات فيها باحثة عن الملامح العربية المهاجرة الى تلك البلاد التى إنبهر بها قبل أكثر من مائة وخمسين عاما الشيخ الأزهرى المعمم رفاعة رافع الطهطاوى ودفعه فضوله الشديد إلى معرفة الكثير عن أحوال هذه البلاد وأهلها وعاداتهم وثقافتهم وأساليب حياتهم مدونا ذالك كله فى كتابه الذى زاعت شهرته فيما بعد " تخليص الإبريز فى تلخيص باريز " فاتحا بذالك صفحة جديدة من الحوار بين العرب والغرب .
تستوقف أمل - وهو إسم هذه الصحفيه - عددا من الوجوه النسائيه الشابه التى توحى ملامحها بالإنتماء الى الوطن العربى ، طارحة عليهن أسئلة تستفهم من خلالها عن الأسباب التى دفعت بكل منهن الى الهجرة الى هذه البلاد .
تتعدد الإجابات التى تحمل كل منها فى طياتها أسبابا متعدده جعلت كل منهن يفضلن العيش فى فرنسا على البقاء فى بلادهن وإن اتفقن جميعا على سبب واحد يبرر لهن العيش مغتربات فى دولة تحفظ للإنسان حقوقه كاملة وتصون له حريته دون أن يجرؤ أحد أن يمسها بسوء طالما أنها لاتتعارض مع حرية الآخر ، الأمر الذى إفتقدنه فى بلادهن ورحن يبحثن عنه فى تلك البلاد .
تختار لنا المخرجة من ضمن هذه الوجوه الكثيره التى قابلتها بطلتها وجهين آخرين إضافة الى تلك الصحفيه كى تبرز لنا من خلال أسلوب حياتهن مفهومها عن الحريه وكيفية البحث عنها والتمتع بها فى هذه البلاد الحره .
ثلاثة وجوه شابه ، يجمعهن البحث عن الحريه الشىء الذى افتقدنه قبل أن تطؤ أقدامهن هذه البلاد ، وتجمعهم أيضا صداقتهن الحميمه التى تجمع بين كل منهن كنوع من التضامن الإجتماعى الذى يميز النساء فى سائر المجتمعات الإنسانيه .
فالوجه الأول الذى تقدمه إيناس الدغيدى لنا فى فيلمها هو شخصية عايده ( داليا البحيرى ) ، فنانه تشكيليه شابه ، دفعها نجاحها فى بلدها مصر وحصولها على العديد من الجوائز عن أعمالها الفنيه الى التفكير فى السفر الى الخارج حيث فرص النجاح الكثيره المتاحه أمامها هناك ، والإهتمام الكبير الذى توليه الدوائر الثقافيه الفرنسيه للمبدعين الشباب وتشجيعهم على المضى قدما فى إبداعاتهم الفنيه ، ولكن إصطدام رغبتها فى السفر الى الخارج برغبة زوجها فى ابقائها بمصر دفعها الى التضحية به وإرغامها على ترك إبنها الصغير " تامر " وعدم السماح لها بزيارته .
تلتقى عايده فى باريس بالصحفيه اللبنانيه أمل ( نيكول بردويل ) والتى تقوم بتعريفها الى صديقتها المغربية سعاد ( سناء موزيان ) ، سرعان ماتتوطد أواصر الصداقه بين الثلاثى المكون لأبطال الفيلم لتساهم هذه العلاقة فى تفعيل الدور النسائى فى الأحداث الخاصه بكل منهن على حده .
تعمل أمل فى إحدى الصحف العربية التى تصدر فى باريس ، وقد هلجرت أمل الي فرنسا هربا من جحيم الحرب الأهليه الذى يجتاح بلدها لبنان - فى ذالك الوقت - وهربا من الجحيم الذى عاشته عقب إختطاف الشاب اللبنانى الذى أحبته على يد الميليشيات المسلحة هناك .
تقوم أمل بتحرير الصفحة الفنية بالصحيفة ويشاركها فى العمل زميلها المصرى كمال ( هشام سليم ) وزميل سودانى يدعى عبد الله .
يقوم بتمويل الصحيفة بشاره أبو زعتر أحد زعماء الحرب اللبنانيين والمعروف بإنحرافه الجنسى وملفاته القذره ، ويطلب منها رئيس التحرير مقابلة هذا الزعيم وتتردد أمل فى البداية بين القبول والرفض بعدما علمت من كمال الهدف الذى يرمى اليه رئيس التحرير من مقابلتها لبشاره .
تتوطد العلاقة بين أمل وكمال وتتحول الى نوع من الحب المتبادل بينهما وإن كدر صفو هذه العلاقة - أحيانا - ذكريات حبيبها اللبنانى الذى لم تعد تعلم عنه شيئا بعد إختطافه الحرب ، إلا أنها سلمت بعد ذالك بمقتله وتمسكت بحبها لزميلها كمال .
يستقر رأى أمل - بعد إلحاح رئيس التحرير - على مقابلة بشاره إيمانا منها بقدرتها على مواجهة الرجل وعدم قدرته على الإيقاع بها ، وبالفعل تذهب اليه أمل وتقابله وتتضح لها صورا من الخسة والحقارة الصفتان الملازمتان لهذا الرجل الذى حول الصحيفة بأمواله الى بوق دعاية له من جهة ، كما حولها الى ماخور يستجلب منه متعته الخاصة من جهة أخرى .
عندما تعود أمل مكن من المقابله ، وعند مرورها بالسياره على برج إيفل تنهار قواها عندما تشاهد جثة زميلها السودانى عبدالله ملقاة أسفل البرج بعد إنتحاره من فوقه إحتجاجا على تصرفات رئيس التحرير الذى تحول إلى قواد يلبى الرغبات الدنيئة لممول الصحيفه .
تؤثر هذه الحادثة على نفسية أمل وتجعلها ترفض مقابلة بشاره وتزداد عندا وتعنتا إصرارا على موقفها برفضها الرد على مكالماته الهاتفيه مما جعله ينتقم منها بأن إستدرجها إلى مكان مظلم وإغتصبها بمساعدة آخرين قبيل أن يطلق الرصاص على قدمها .
أما الوجه الثالث الذى تقدمه لنا المخرجة فهو شخصية سعاد الفتاة المغربية التى لم تتلق قدرا كافيا من التعليم وأجبرتها ظروفها على الهجرة الى باريس والحياة فى شوارعها كبائعة للهوى قبيل أن تتلقفها يد أحد أصحاب المحلات التجاريه الذى ينتمى الى احدى دول الشمال الإفريقى ( على حسب مايتضح من لهجته ) ويجعلها تعمل عنده ثم يضمها الى أملاكه الخاصه بالحد الزائد من حريتها وإستغلالها جنسيا فى متعته الناقصه وهو الكهل العنين .
تتعرف سعاد على عايده عن طريق صديقتها امل وتتوطد أواصر الصداقه بينهما عندما أعجبت عايده ببعض ملامحها التى رأت أنها تصلح للوحه فنيه ، وإستأذنتها أن تقوم برسم لوحات لها إلا أن الفتاه تحتج بأن صاحب العمل لايسمح لها بالذهاب لمدة طويله ، فتذهب عايدة اليه وتنجح فى إقناعه بالأمر مما يجعلها تخلو بسعاد عدة ساعات يوميا تتمكن فيها من رسم بعض اللوحات لها ومعرفة المذيد عنها .
تنشأ قصة حب بين سعاد وروجيه - الشاب الفرنسى الذى يعمل فى المحل المقابل - إلا أن لقاءاتهما تصير شبه مستحيلة لأن صاحب العمل كان ينهرها كلما شاهدها تقف معه مما جعلها وبناءا على نصيحة صديقتيها أن تطالب الرجل بإعطائها حقوقها وقامت بالضغط عليه حتى وافق أن يحرر لها شيكا بمبلغ مالى لا بأس به .
ويقيم لها الرجل حفلا تدعو اليها صديقاتها وتظهر موهبتها الغنائيه فى الحفل عندما تغنى إحدى أشهر أغانى الراحلة أسمهان ( ليالى الأنس فى فيينا ) مما دفع أحد المنتجين الفنيين الذى كان متواجدا أثناء الحفل إلى أن يهمس لها فى أذنها عن استعداده لاكتشافها فنيا إن أرادت ، وسرعان ماينتهى شهر العسل بين سعاد وصاحب العمل بعدما قام بسرقة الشيك منها وطردها من شقته بصورة مهينه .
تلجأ الفتاة إلى المنتج المصرى الذى وعدها باكتشاف موهبتها وجعلها أميرة الغناء فى باريس وتنجح سعاد فى عملها الجديد ، إلا أنها تفاجىء بأن المنتج يستغلها جنسيا بتقديمها الى الأثرياء العرب فترفض هذا الوضع مما يدفع المنتج الى محاولة إغتصابها قبل أن تهرب من بين يديه .

تتفاعل الأحداث وتربط المصير المشترك للثلاثى الباحث عن الحريه فى بلاد سمعوا عنها الكثير من إحترام لحرية الإنسان وصون لحقوقه الأمر الذى افتقدوه فى بلادهم وذهبوا للبحث عنه فيما وراء البحار .
تتعرف عايده على مهندس مصرى يقيم فى باريس يدعى عمر ( أحمد عز الدين ) ، وتتطور العلاقة بينهما من إعجاب منه بإحدى لوحاتها إلى دعوتها على العشاء الى حب جارف ربطها به وجعلها تفكر - بحكم انتماءه الى مصر - فى بلدها وفلذة كبدها الذى خلفته هنالك مع مطلقها .
تفكر عايده فى العودة الى مصر وتخبر عمر بذالك فيحاول عمر أن يثنيها عن عزمها إلا أنها تعده بالعودة سريعا بعد حصولها على طفلها .
تعود عايده الى مصر وتلتقى طفلها " تامر " الذى تعرف عليها سريعا وتعلق بها كثيرا الأمر الذى ساهم فى الضغط على والده وجعله يستسلم لها تاركا الطفل يذهب معها .
وتلجأ سعاد فى اللحظة الأخيره الى حبيبها روجيه وتنتهى قصتها أو بمعنى أدق تبدأ الصفحة الجديدة من حياتها بمفاجأة ساره عندما تكتشف أن حبيبها من أصل جزائرى وأن والدته مسلمة جزائريه ، وينتهى دورهما بقراءتهما سويا لسورة الفاتحه تمهيدا لبدء حياتهما الجديدة معا .
أما أمل فتفاجىء بسفر كمال الى لبنان بعد استبعاد رئيس التحرير له من عمله دون أن تعلم السبب المباشر عن إختياره للبنان بالذات ويعدها قبل سفره بأ يكون معها عندما تريده .
وعندما تشفى من الرصاصة التى أطلقت عليها تقرر الإنتقام من بشاره وتذهب اليه بعدما أظهرت خضوعها له مبيتة النيه على التخلص منه ، وفى غمرة ممارسته للجنس معها تخرج مطواة من حقيبتها تضع بها حدا فاصلا لحياته ، ثم تخرج من حجرته شبه متماسكة وهى تخبر الحراس بأن زعيمهم نائم ويرغب فى أن لايوقظه أحد ، ثم تطلب من سائق السيارة أن يوصلها الى مطار شارل ديجول .
تعود أمل الى لبنان وتلتقى هناك بكمال ، وتذهب الى الكنيسة برفقته دون أن تعلم شيئا عن المفاجأة التى أعدها لها هناك وهى السبب الذى جعله يعود الى لبنان حيث قدم لها حبيبها الغائب الذى افتقدته فى غمار الحرب الأهليه .
تقف أمل حائرة بين كمال وبين حبيبها الذى إلتقته بعد غياب وتنهى المخرجة فيلمها على هذا المشهد التى تظهر فيه بطلتها حائرة بين حبيبيها تاركة لها حرية المفاضلة والاختيار فيما بينهم .
ركزت المخرجة على أهداف رئيسية أرادت أن توصلها الى الأذهان عن طريق أحداث الفيلم ، فهى ترى أن الحرية لا تتقيد ببعد جغرافى معين وانما يجب أن تكون نابعة من داخل الشخص الذى يبحث عنها .
وتقدم المخرجة توضيحا عمليا لإحدى وجهات نظرها عن العلاقة بين أسلوب ممارسة الجنس وأسلوب الحياة الذى يعيشه الشخص ، فهى تظهر أمل التى تعرضت لأنواع كثيرة من العنف خلال حياتها عنيفة مع شركائها أثناء ممارستها للجنس معهم ، بينما الفنانة عايده هادئة الطباع تظهرها تمارس الجنس بصوره هادئه تعبر عن طبعها الهادىء وحياتها المستقره ، فأسلوب ممارسة الجنس يعد مرآة لحياة كل شخص يمكن من خلاله معرفة أسلوب حياته وكيفية تفاعله مع الآخرين وقد تكون معبرة عما يجول فى خواطره وأعماقه دون أن يصرح هو بذالك ، فالجنس - فعلا - هو لغة يمكن التفاهم بها بين الشريكين عندما يعجز كل منهما عن الإفصاح عما فى داخله تجاه الآخر .
أما بالنسبة لمشاهد الجنس التى وردت ضمن أحداث الفيلم فإن الاعتراض عليها لمجرد انها مشاهد جنسيه يعد نوعا من وضع العراقيل أمام الأسلوب الذى يتبعه المخرج فى التعبير عن الرسالة التى يريد أن يوصلها من خلال الفيلم ، ومشاهد الجنس فى الفيلم لم تضعها المخرجة عبثا أو لجذب أكبر عدد من الجمهور الى شباك التذاكر - كما يدعى البعض - وإنما هى موظفة ضمن أحداث الفيلم وتخدم السياق الذى تقدمه لنا المخرجة فى الفيلم وإذا تم حذف هذه المشاهد من الفيلم فإنه سيصبح بلا معنى مفهوم لربطه بين الأحداث الرئيسيه فى الفيلم .
وتقدم لنا المخرجة صورة مؤسفة للأسلوب الذى يتعامل به العرب مع المكان الذى هاجروا اليه ، فهم لم يكتفوا بنقل أنفسهم الى هناك وإنما نقلوا معهم بعض أمراضهم المعدية التى جائوا بها معهم من المشرق العربى ، ويتضح هذا جليا فى المتاعب التى تعرضت لها كل فتاة من هؤلاء ، فجميع هذه المتاعب كان السبب الرئيسى فيها بعض أبناء جلدتهم من العرب ، بينما على العكس من ذالك تماما نجد الفرنسيين يمدون لهم يد العون ويساعدونهم على الترقى فى سلم الإبداع ويهنئونهم على نجاحاتهم التى حققوها هناك .
فالفيلم تجربة فريدة من نوعها بل هو مغامرة ناجحة خاضتها مخرجته فى جو خانق من افلا التردى الفكرى التى تسيطر على الساحه الفنيه حاليا ( اللمبى وعوكل وزكى شان وخلافه ...) ، وهو كذالك يعد كسرا للتابوهات العتيقه التى تقبع فى داخلها السينما العربيه التى يحرم عليها الاقتراب من الثلاثى المحرم الدين والسياسة والجنس ، فايناس فى فيلمها هذا إستطاعت تجاوز جميع الخطوط الحمراء ضاربة بمقص الرقيب وسلطة الحاكم وتقاليد العرب عرض الحائط .
ختاما : أهدى كل تحياتى الى الفنانة الكبيرة والمبدعة العظيمه إيناس الدغيدى متمنيا لها دوام التوفيق والاستمرار فى مشوارها الابداعى وأن نرى أعمالها دائما تتصدر قائمة الأعمال السينمائية معبرة بواقعية وصدق عما يجول فى خواطرنا وما تسرح فيه أخيلتنا كما عهدناها دائما .
عبدالكريم نبيل سليمان
الاسكندريه فى : 26/1/2001

الباحثات عن الحرية : إيناس الدغيدى وعمل إبداعى بكل المقاييس

أتيح لى مؤخرا مشاهدة أخر الأعمال السينمائية للمخرجة المصرية المعروفة إيناس الدغيدى وهو فيلم " الباحثات عن الحرية " ، وذالك بعد طرحة فى دور العرض السينمائى مع بداية عيد الأضحى المبارك ، وكانت الشائعات التى تلوكها الألسنة بشكل مرضى وأخذت فى النيل من هذا العمل ومن مخرجتة - وأغلبها لاأ ساس لة من الصحة - قد إنتشرت بين الجمهور وحتى قبل عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى قبل حوالى شهر ، وأخذ البعض يطالب أجهزة الرقابة بعدم إجازة عرض هذا الفيلم ، بل وأخذ البعض يتهم المخرجة بتقديمها مشاهد إباحية ضمن أحداث الفيلم لاعلاقة لها بمحتوى الموضوع إلى آخر هذة الاتهامات التى كانت تكال بشكل غريب إلى الفيلم ومخرجتة نظرا لتاريخها السينمائى المعروف بالجرأة وعدم وضع أى إعتبار للخطوط الحمراء وعادات ومألوفات وتقاليد العرب .
وبعد هذة الموجه من الإنتقادات شديدة اللهجة ، فجر الفيلم مفاجأة من العيار الثقيل بحصول مخرجتة على جائزة أحسن فيلم لموسم 2004 فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الأمر الذى ساهم فى الحد من جدوى الشائعات التى أثاؤها البعض حول الفيلم .
فى البدايه تصطحبنا المخرجة فى جولة مع إحدى بطلات فيلمها - التى تعمل صحفية - فى شوارع باريس 1989، تسير هذة الصحفية ( نيكول بردويل ) حاملة كاميرتها متصفحة وجوة العابرات فيها باحثة عن الملامح العربية المهاجرة الى تلك البلاد التى إنبهر بها قبل أكثر من مائة وخمسين عاما الشيخ الأزهرى المعمم رفاعة رافع الطهطاوى ودفعه فضوله الشديد إلى معرفة الكثير عن أحوال هذه البلاد وأهلها وعاداتهم وثقافتهم وأساليب حياتهم مدونا ذالك كله فى كتابه الذى زاعت شهرته فيما بعد " تخليص الإبريز فى تلخيص باريز " فاتحا بذالك صفحة جديدة من الحوار بين العرب والغرب .
تستوقف أمل - وهو إسم هذه الصحفيه - عددا من الوجوه النسائيه الشابه التى توحى ملامحها بالإنتماء الى الوطن العربى ، طارحة عليهن أسئلة تستفهم من خلالها عن الأسباب التى دفعت بكل منهن الى الهجرة الى هذه البلاد .
تتعدد الإجابات التى تحمل كل منها فى طياتها أسبابا متعدده جعلت كل منهن يفضلن العيش فى فرنسا على البقاء فى بلادهن وإن اتفقن جميعا على سبب واحد يبرر لهن العيش مغتربات فى دولة تحفظ للإنسان حقوقه كاملة وتصون له حريته دون أن يجرؤ أحد أن يمسها بسوء طالما أنها لاتتعارض مع حرية الآخر ، الأمر الذى إفتقدنه فى بلادهن ورحن يبحثن عنه فى تلك البلاد .
تختار لنا المخرجة من ضمن هذه الوجوه الكثيره التى قابلتها بطلتها وجهين آخرين إضافة الى تلك الصحفيه كى تبرز لنا من خلال أسلوب حياتهن مفهومها عن الحريه وكيفية البحث عنها والتمتع بها فى هذه البلاد الحره .
ثلاثة وجوه شابه ، يجمعهن البحث عن الحريه الشىء الذى افتقدنه قبل أن تطؤ أقدامهن هذه البلاد ، وتجمعهم أيضا صداقتهن الحميمه التى تجمع بين كل منهن كنوع من التضامن الإجتماعى الذى يميز النساء فى سائر المجتمعات الإنسانيه .
فالوجه الأول الذى تقدمه إيناس الدغيدى لنا فى فيلمها هو شخصية عايده ( داليا البحيرى ) ، فنانه تشكيليه شابه ، دفعها نجاحها فى بلدها مصر وحصولها على العديد من الجوائز عن أعمالها الفنيه الى التفكير فى السفر الى الخارج حيث فرص النجاح الكثيره المتاحه أمامها هناك ، والإهتمام الكبير الذى توليه الدوائر الثقافيه الفرنسيه للمبدعين الشباب وتشجيعهم على المضى قدما فى إبداعاتهم الفنيه ، ولكن إصطدام رغبتها فى السفر الى الخارج برغبة زوجها فى ابقائها بمصر دفعها الى التضحية به وإرغامها على ترك إبنها الصغير " تامر " وعدم السماح لها بزيارته .
تلتقى عايده فى باريس بالصحفيه اللبنانيه أمل ( نيكول بردويل ) والتى تقوم بتعريفها الى صديقتها المغربية سعاد ( سناء موزيان ) ، سرعان ماتتوطد أواصر الصداقه بين الثلاثى المكون لأبطال الفيلم لتساهم هذه العلاقة فى تفعيل الدور النسائى فى الأحداث الخاصه بكل منهن على حده .
تعمل أمل فى إحدى الصحف العربية التى تصدر فى باريس ، وقد هلجرت أمل الي فرنسا هربا من جحيم الحرب الأهليه الذى يجتاح بلدها لبنان - فى ذالك الوقت - وهربا من الجحيم الذى عاشته عقب إختطاف الشاب اللبنانى الذى أحبته على يد الميليشيات المسلحة هناك .
تقوم أمل بتحرير الصفحة الفنية بالصحيفة ويشاركها فى العمل زميلها المصرى كمال ( هشام سليم ) وزميل سودانى يدعى عبد الله .
يقوم بتمويل الصحيفة بشاره أبو زعتر أحد زعماء الحرب اللبنانيين والمعروف بإنحرافه الجنسى وملفاته القذره ، ويطلب منها رئيس التحرير مقابلة هذا الزعيم وتتردد أمل فى البداية بين القبول والرفض بعدما علمت من كمال الهدف الذى يرمى اليه رئيس التحرير من مقابلتها لبشاره .
تتوطد العلاقة بين أمل وكمال وتتحول الى نوع من الحب المتبادل بينهما وإن كدر صفو هذه العلاقة - أحيانا - ذكريات حبيبها اللبنانى الذى لم تعد تعلم عنه شيئا بعد إختطافه الحرب ، إلا أنها سلمت بعد ذالك بمقتله وتمسكت بحبها لزميلها كمال .
يستقر رأى أمل - بعد إلحاح رئيس التحرير - على مقابلة بشاره إيمانا منها بقدرتها على مواجهة الرجل وعدم قدرته على الإيقاع بها ، وبالفعل تذهب اليه أمل وتقابله وتتضح لها صورا من الخسة والحقارة الصفتان الملازمتان لهذا الرجل الذى حول الصحيفة بأمواله الى بوق دعاية له من جهة ، كما حولها الى ماخور يستجلب منه متعته الخاصة من جهة أخرى .
عندما تعود أمل مكن من المقابله ، وعند مرورها بالسياره على برج إيفل تنهار قواها عندما تشاهد جثة زميلها السودانى عبدالله ملقاة أسفل البرج بعد إنتحاره من فوقه إحتجاجا على تصرفات رئيس التحرير الذى تحول إلى قواد يلبى الرغبات الدنيئة لممول الصحيفه .
تؤثر هذه الحادثة على نفسية أمل وتجعلها ترفض مقابلة بشاره وتزداد عندا وتعنتا إصرارا على موقفها برفضها الرد على مكالماته الهاتفيه مما جعله ينتقم منها بأن إستدرجها إلى مكان مظلم وإغتصبها بمساعدة آخرين قبيل أن يطلق الرصاص على قدمها .
أما الوجه الثالث الذى تقدمه لنا المخرجة فهو شخصية سعاد الفتاة المغربية التى لم تتلق قدرا كافيا من التعليم وأجبرتها ظروفها على الهجرة الى باريس والحياة فى شوارعها كبائعة للهوى قبيل أن تتلقفها يد أحد أصحاب المحلات التجاريه الذى ينتمى الى احدى دول الشمال الإفريقى ( على حسب مايتضح من لهجته ) ويجعلها تعمل عنده ثم يضمها الى أملاكه الخاصه بالحد الزائد من حريتها وإستغلالها جنسيا فى متعته الناقصه وهو الكهل العنين .
تتعرف سعاد على عايده عن طريق صديقتها امل وتتوطد أواصر الصداقه بينهما عندما أعجبت عايده ببعض ملامحها التى رأت أنها تصلح للوحه فنيه ، وإستأذنتها أن تقوم برسم لوحات لها إلا أن الفتاه تحتج بأن صاحب العمل لايسمح لها بالذهاب لمدة طويله ، فتذهب عايدة اليه وتنجح فى إقناعه بالأمر مما يجعلها تخلو بسعاد عدة ساعات يوميا تتمكن فيها من رسم بعض اللوحات لها ومعرفة المذيد عنها .
تنشأ قصة حب بين سعاد وروجيه - الشاب الفرنسى الذى يعمل فى المحل المقابل - إلا أن لقاءاتهما تصير شبه مستحيلة لأن صاحب العمل كان ينهرها كلما شاهدها تقف معه مما جعلها وبناءا على نصيحة صديقتيها أن تطالب الرجل بإعطائها حقوقها وقامت بالضغط عليه حتى وافق أن يحرر لها شيكا بمبلغ مالى لا بأس به .
ويقيم لها الرجل حفلا تدعو اليها صديقاتها وتظهر موهبتها الغنائيه فى الحفل عندما تغنى إحدى أشهر أغانى الراحلة أسمهان ( ليالى الأنس فى فيينا ) مما دفع أحد المنتجين الفنيين الذى كان متواجدا أثناء الحفل إلى أن يهمس لها فى أذنها عن استعداده لاكتشافها فنيا إن أرادت ، وسرعان ماينتهى شهر العسل بين سعاد وصاحب العمل بعدما قام بسرقة الشيك منها وطردها من شقته بصورة مهينه .
تلجأ الفتاة إلى المنتج المصرى الذى وعدها باكتشاف موهبتها وجعلها أميرة الغناء فى باريس وتنجح سعاد فى عملها الجديد ، إلا أنها تفاجىء بأن المنتج يستغلها جنسيا بتقديمها الى الأثرياء العرب فترفض هذا الوضع مما يدفع المنتج الى محاولة إغتصابها قبل أن تهرب من بين يديه .

تتفاعل الأحداث وتربط المصير المشترك للثلاثى الباحث عن الحريه فى بلاد سمعوا عنها الكثير من إحترام لحرية الإنسان وصون لحقوقه الأمر الذى افتقدوه فى بلادهم وذهبوا للبحث عنه فيما وراء البحار .
تتعرف عايده على مهندس مصرى يقيم فى باريس يدعى عمر ( أحمد عز الدين ) ، وتتطور العلاقة بينهما من إعجاب منه بإحدى لوحاتها إلى دعوتها على العشاء الى حب جارف ربطها به وجعلها تفكر - بحكم انتماءه الى مصر - فى بلدها وفلذة كبدها الذى خلفته هنالك مع مطلقها .
تفكر عايده فى العودة الى مصر وتخبر عمر بذالك فيحاول عمر أن يثنيها عن عزمها إلا أنها تعده بالعودة سريعا بعد حصولها على طفلها .
تعود عايده الى مصر وتلتقى طفلها " تامر " الذى تعرف عليها سريعا وتعلق بها كثيرا الأمر الذى ساهم فى الضغط على والده وجعله يستسلم لها تاركا الطفل يذهب معها .
وتلجأ سعاد فى اللحظة الأخيره الى حبيبها روجيه وتنتهى قصتها أو بمعنى أدق تبدأ الصفحة الجديدة من حياتها بمفاجأة ساره عندما تكتشف أن حبيبها من أصل جزائرى وأن والدته مسلمة جزائريه ، وينتهى دورهما بقراءتهما سويا لسورة الفاتحه تمهيدا لبدء حياتهما الجديدة معا .
أما أمل فتفاجىء بسفر كمال الى لبنان بعد استبعاد رئيس التحرير له من عمله دون أن تعلم السبب المباشر عن إختياره للبنان بالذات ويعدها قبل سفره بأ يكون معها عندما تريده .
وعندما تشفى من الرصاصة التى أطلقت عليها تقرر الإنتقام من بشاره وتذهب اليه بعدما أظهرت خضوعها له مبيتة النيه على التخلص منه ، وفى غمرة ممارسته للجنس معها تخرج مطواة من حقيبتها تضع بها حدا فاصلا لحياته ، ثم تخرج من حجرته شبه متماسكة وهى تخبر الحراس بأن زعيمهم نائم ويرغب فى أن لايوقظه أحد ، ثم تطلب من سائق السيارة أن يوصلها الى مطار شارل ديجول .
تعود أمل الى لبنان وتلتقى هناك بكمال ، وتذهب الى الكنيسة برفقته دون أن تعلم شيئا عن المفاجأة التى أعدها لها هناك وهى السبب الذى جعله يعود الى لبنان حيث قدم لها حبيبها الغائب الذى افتقدته فى غمار الحرب الأهليه .
تقف أمل حائرة بين كمال وبين حبيبها الذى إلتقته بعد غياب وتنهى المخرجة فيلمها على هذا المشهد التى تظهر فيه بطلتها حائرة بين حبيبيها تاركة لها حرية المفاضلة والاختيار فيما بينهم .
ركزت المخرجة على أهداف رئيسية أرادت أن توصلها الى الأذهان عن طريق أحداث الفيلم ، فهى ترى أن الحرية لا تتقيد ببعد جغرافى معين وانما يجب أن تكون نابعة من داخل الشخص الذى يبحث عنها .
وتقدم المخرجة توضيحا عمليا لإحدى وجهات نظرها عن العلاقة بين أسلوب ممارسة الجنس وأسلوب الحياة الذى يعيشه الشخص ، فهى تظهر أمل التى تعرضت لأنواع كثيرة من العنف خلال حياتها عنيفة مع شركائها أثناء ممارستها للجنس معهم ، بينما الفنانة عايده هادئة الطباع تظهرها تمارس الجنس بصوره هادئه تعبر عن طبعها الهادىء وحياتها المستقره ، فأسلوب ممارسة الجنس يعد مرآة لحياة كل شخص يمكن من خلاله معرفة أسلوب حياته وكيفية تفاعله مع الآخرين وقد تكون معبرة عما يجول فى خواطره وأعماقه دون أن يصرح هو بذالك ، فالجنس - فعلا - هو لغة يمكن التفاهم بها بين الشريكين عندما يعجز كل منهما عن الإفصاح عما فى داخله تجاه الآخر .
أما بالنسبة لمشاهد الجنس التى وردت ضمن أحداث الفيلم فإن الاعتراض عليها لمجرد انها مشاهد جنسيه يعد نوعا من وضع العراقيل أمام الأسلوب الذى يتبعه المخرج فى التعبير عن الرسالة التى يريد أن يوصلها من خلال الفيلم ، ومشاهد الجنس فى الفيلم لم تضعها المخرجة عبثا أو لجذب أكبر عدد من الجمهور الى شباك التذاكر - كما يدعى البعض - وإنما هى موظفة ضمن أحداث الفيلم وتخدم السياق الذى تقدمه لنا المخرجة فى الفيلم وإذا تم حذف هذه المشاهد من الفيلم فإنه سيصبح بلا معنى مفهوم لربطه بين الأحداث الرئيسيه فى الفيلم .
وتقدم لنا المخرجة صورة مؤسفة للأسلوب الذى يتعامل به العرب مع المكان الذى هاجروا اليه ، فهم لم يكتفوا بنقل أنفسهم الى هناك وإنما نقلوا معهم بعض أمراضهم المعدية التى جائوا بها معهم من المشرق العربى ، ويتضح هذا جليا فى المتاعب التى تعرضت لها كل فتاة من هؤلاء ، فجميع هذه المتاعب كان السبب الرئيسى فيها بعض أبناء جلدتهم من العرب ، بينما على العكس من ذالك تماما نجد الفرنسيين يمدون لهم يد العون ويساعدونهم على الترقى فى سلم الإبداع ويهنئونهم على نجاحاتهم التى حققوها هناك .
فالفيلم تجربة فريدة من نوعها بل هو مغامرة ناجحة خاضتها مخرجته فى جو خانق من افلا التردى الفكرى التى تسيطر على الساحه الفنيه حاليا ( اللمبى وعوكل وزكى شان وخلافه ...) ، وهو كذالك يعد كسرا للتابوهات العتيقه التى تقبع فى داخلها السينما العربيه التى يحرم عليها الاقتراب من الثلاثى المحرم الدين والسياسة والجنس ، فايناس فى فيلمها هذا إستطاعت تجاوز جميع الخطوط الحمراء ضاربة بمقص الرقيب وسلطة الحاكم وتقاليد العرب عرض الحائط .
ختاما : أهدى كل تحياتى الى الفنانة الكبيرة والمبدعة العظيمه إيناس الدغيدى متمنيا لها دوام التوفيق والاستمرار فى مشوارها الابداعى وأن نرى أعمالها دائما تتصدر قائمة الأعمال السينمائية معبرة بواقعية وصدق عما يجول فى خواطرنا وما تسرح فيه أخيلتنا كما عهدناها دائما .
عبدالكريم نبيل سليمان
الاسكندريه فى : 26/1/2001

الباحثات عن الحرية : إيناس الدغيدى وعمل إبداعى بكل المقاييس

أتيح لى مؤخرا مشاهدة أخر الأعمال السينمائية للمخرجة المصرية المعروفة إيناس الدغيدى وهو فيلم " الباحثات عن الحرية " ، وذالك بعد طرحة فى دور العرض السينمائى مع بداية عيد الأضحى المبارك ، وكانت الشائعات التى تلوكها الألسنة بشكل مرضى وأخذت فى النيل من هذا العمل ومن مخرجتة - وأغلبها لاأ ساس لة من الصحة - قد إنتشرت بين الجمهور وحتى قبل عرض الفيلم فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى قبل حوالى شهر ، وأخذ البعض يطالب أجهزة الرقابة بعدم إجازة عرض هذا الفيلم ، بل وأخذ البعض يتهم المخرجة بتقديمها مشاهد إباحية ضمن أحداث الفيلم لاعلاقة لها بمحتوى الموضوع إلى آخر هذة الاتهامات التى كانت تكال بشكل غريب إلى الفيلم ومخرجتة نظرا لتاريخها السينمائى المعروف بالجرأة وعدم وضع أى إعتبار للخطوط الحمراء وعادات ومألوفات وتقاليد العرب .
وبعد هذة الموجه من الإنتقادات شديدة اللهجة ، فجر الفيلم مفاجأة من العيار الثقيل بحصول مخرجتة على جائزة أحسن فيلم لموسم 2004 فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الأمر الذى ساهم فى الحد من جدوى الشائعات التى أثاؤها البعض حول الفيلم .
فى البدايه تصطحبنا المخرجة فى جولة مع إحدى بطلات فيلمها - التى تعمل صحفية - فى شوارع باريس 1989، تسير هذة الصحفية ( نيكول بردويل ) حاملة كاميرتها متصفحة وجوة العابرات فيها باحثة عن الملامح العربية المهاجرة الى تلك البلاد التى إنبهر بها قبل أكثر من مائة وخمسين عاما الشيخ الأزهرى المعمم رفاعة رافع الطهطاوى ودفعه فضوله الشديد إلى معرفة الكثير عن أحوال هذه البلاد وأهلها وعاداتهم وثقافتهم وأساليب حياتهم مدونا ذالك كله فى كتابه الذى زاعت شهرته فيما بعد " تخليص الإبريز فى تلخيص باريز " فاتحا بذالك صفحة جديدة من الحوار بين العرب والغرب .
تستوقف أمل - وهو إسم هذه الصحفيه - عددا من الوجوه النسائيه الشابه التى توحى ملامحها بالإنتماء الى الوطن العربى ، طارحة عليهن أسئلة تستفهم من خلالها عن الأسباب التى دفعت بكل منهن الى الهجرة الى هذه البلاد .
تتعدد الإجابات التى تحمل كل منها فى طياتها أسبابا متعدده جعلت كل منهن يفضلن العيش فى فرنسا على البقاء فى بلادهن وإن اتفقن جميعا على سبب واحد يبرر لهن العيش مغتربات فى دولة تحفظ للإنسان حقوقه كاملة وتصون له حريته دون أن يجرؤ أحد أن يمسها بسوء طالما أنها لاتتعارض مع حرية الآخر ، الأمر الذى إفتقدنه فى بلادهن ورحن يبحثن عنه فى تلك البلاد .
تختار لنا المخرجة من ضمن هذه الوجوه الكثيره التى قابلتها بطلتها وجهين آخرين إضافة الى تلك الصحفيه كى تبرز لنا من خلال أسلوب حياتهن مفهومها عن الحريه وكيفية البحث عنها والتمتع بها فى هذه البلاد الحره .
ثلاثة وجوه شابه ، يجمعهن البحث عن الحريه الشىء الذى افتقدنه قبل أن تطؤ أقدامهن هذه البلاد ، وتجمعهم أيضا صداقتهن الحميمه التى تجمع بين كل منهن كنوع من التضامن الإجتماعى الذى يميز النساء فى سائر المجتمعات الإنسانيه .
فالوجه الأول الذى تقدمه إيناس الدغيدى لنا فى فيلمها هو شخصية عايده ( داليا البحيرى ) ، فنانه تشكيليه شابه ، دفعها نجاحها فى بلدها مصر وحصولها على العديد من الجوائز عن أعمالها الفنيه الى التفكير فى السفر الى الخارج حيث فرص النجاح الكثيره المتاحه أمامها هناك ، والإهتمام الكبير الذى توليه الدوائر الثقافيه الفرنسيه للمبدعين الشباب وتشجيعهم على المضى قدما فى إبداعاتهم الفنيه ، ولكن إصطدام رغبتها فى السفر الى الخارج برغبة زوجها فى ابقائها بمصر دفعها الى التضحية به وإرغامها على ترك إبنها الصغير " تامر " وعدم السماح لها بزيارته .
تلتقى عايده فى باريس بالصحفيه اللبنانيه أمل ( نيكول بردويل ) والتى تقوم بتعريفها الى صديقتها المغربية سعاد ( سناء موزيان ) ، سرعان ماتتوطد أواصر الصداقه بين الثلاثى المكون لأبطال الفيلم لتساهم هذه العلاقة فى تفعيل الدور النسائى فى الأحداث الخاصه بكل منهن على حده .
تعمل أمل فى إحدى الصحف العربية التى تصدر فى باريس ، وقد هلجرت أمل الي فرنسا هربا من جحيم الحرب الأهليه الذى يجتاح بلدها لبنان - فى ذالك الوقت - وهربا من الجحيم الذى عاشته عقب إختطاف الشاب اللبنانى الذى أحبته على يد الميليشيات المسلحة هناك .
تقوم أمل بتحرير الصفحة الفنية بالصحيفة ويشاركها فى العمل زميلها المصرى كمال ( هشام سليم ) وزميل سودانى يدعى عبد الله .
يقوم بتمويل الصحيفة بشاره أبو زعتر أحد زعماء الحرب اللبنانيين والمعروف بإنحرافه الجنسى وملفاته القذره ، ويطلب منها رئيس التحرير مقابلة هذا الزعيم وتتردد أمل فى البداية بين القبول والرفض بعدما علمت من كمال الهدف الذى يرمى اليه رئيس التحرير من مقابلتها لبشاره .
تتوطد العلاقة بين أمل وكمال وتتحول الى نوع من الحب المتبادل بينهما وإن كدر صفو هذه العلاقة - أحيانا - ذكريات حبيبها اللبنانى الذى لم تعد تعلم عنه شيئا بعد إختطافه الحرب ، إلا أنها سلمت بعد ذالك بمقتله وتمسكت بحبها لزميلها كمال .
يستقر رأى أمل - بعد إلحاح رئيس التحرير - على مقابلة بشاره إيمانا منها بقدرتها على مواجهة الرجل وعدم قدرته على الإيقاع بها ، وبالفعل تذهب اليه أمل وتقابله وتتضح لها صورا من الخسة والحقارة الصفتان الملازمتان لهذا الرجل الذى حول الصحيفة بأمواله الى بوق دعاية له من جهة ، كما حولها الى ماخور يستجلب منه متعته الخاصة من جهة أخرى .
عندما تعود أمل مكن من المقابله ، وعند مرورها بالسياره على برج إيفل تنهار قواها عندما تشاهد جثة زميلها السودانى عبدالله ملقاة أسفل البرج بعد إنتحاره من فوقه إحتجاجا على تصرفات رئيس التحرير الذى تحول إلى قواد يلبى الرغبات الدنيئة لممول الصحيفه .
تؤثر هذه الحادثة على نفسية أمل وتجعلها ترفض مقابلة بشاره وتزداد عندا وتعنتا إصرارا على موقفها برفضها الرد على مكالماته الهاتفيه مما جعله ينتقم منها بأن إستدرجها إلى مكان مظلم وإغتصبها بمساعدة آخرين قبيل أن يطلق الرصاص على قدمها .
أما الوجه الثالث الذى تقدمه لنا المخرجة فهو شخصية سعاد الفتاة المغربية التى لم تتلق قدرا كافيا من التعليم وأجبرتها ظروفها على الهجرة الى باريس والحياة فى شوارعها كبائعة للهوى قبيل أن تتلقفها يد أحد أصحاب المحلات التجاريه الذى ينتمى الى احدى دول الشمال الإفريقى ( على حسب مايتضح من لهجته ) ويجعلها تعمل عنده ثم يضمها الى أملاكه الخاصه بالحد الزائد من حريتها وإستغلالها جنسيا فى متعته الناقصه وهو الكهل العنين .
تتعرف سعاد على عايده عن طريق صديقتها امل وتتوطد أواصر الصداقه بينهما عندما أعجبت عايده ببعض ملامحها التى رأت أنها تصلح للوحه فنيه ، وإستأذنتها أن تقوم برسم لوحات لها إلا أن الفتاه تحتج بأن صاحب العمل لايسمح لها بالذهاب لمدة طويله ، فتذهب عايدة اليه وتنجح فى إقناعه بالأمر مما يجعلها تخلو بسعاد عدة ساعات يوميا تتمكن فيها من رسم بعض اللوحات لها ومعرفة المذيد عنها .
تنشأ قصة حب بين سعاد وروجيه - الشاب الفرنسى الذى يعمل فى المحل المقابل - إلا أن لقاءاتهما تصير شبه مستحيلة لأن صاحب العمل كان ينهرها كلما شاهدها تقف معه مما جعلها وبناءا على نصيحة صديقتيها أن تطالب الرجل بإعطائها حقوقها وقامت بالضغط عليه حتى وافق أن يحرر لها شيكا بمبلغ مالى لا بأس به .
ويقيم لها الرجل حفلا تدعو اليها صديقاتها وتظهر موهبتها الغنائيه فى الحفل عندما تغنى إحدى أشهر أغانى الراحلة أسمهان ( ليالى الأنس فى فيينا ) مما دفع أحد المنتجين الفنيين الذى كان متواجدا أثناء الحفل إلى أن يهمس لها فى أذنها عن استعداده لاكتشافها فنيا إن أرادت ، وسرعان ماينتهى شهر العسل بين سعاد وصاحب العمل بعدما قام بسرقة الشيك منها وطردها من شقته بصورة مهينه .
تلجأ الفتاة إلى المنتج المصرى الذى وعدها باكتشاف موهبتها وجعلها أميرة الغناء فى باريس وتنجح سعاد فى عملها الجديد ، إلا أنها تفاجىء بأن المنتج يستغلها جنسيا بتقديمها الى الأثرياء العرب فترفض هذا الوضع مما يدفع المنتج الى محاولة إغتصابها قبل أن تهرب من بين يديه .

تتفاعل الأحداث وتربط المصير المشترك للثلاثى الباحث عن الحريه فى بلاد سمعوا عنها الكثير من إحترام لحرية الإنسان وصون لحقوقه الأمر الذى افتقدوه فى بلادهم وذهبوا للبحث عنه فيما وراء البحار .
تتعرف عايده على مهندس مصرى يقيم فى باريس يدعى عمر ( أحمد عز الدين ) ، وتتطور العلاقة بينهما من إعجاب منه بإحدى لوحاتها إلى دعوتها على العشاء الى حب جارف ربطها به وجعلها تفكر - بحكم انتماءه الى مصر - فى بلدها وفلذة كبدها الذى خلفته هنالك مع مطلقها .
تفكر عايده فى العودة الى مصر وتخبر عمر بذالك فيحاول عمر أن يثنيها عن عزمها إلا أنها تعده بالعودة سريعا بعد حصولها على طفلها .
تعود عايده الى مصر وتلتقى طفلها " تامر " الذى تعرف عليها سريعا وتعلق بها كثيرا الأمر الذى ساهم فى الضغط على والده وجعله يستسلم لها تاركا الطفل يذهب معها .
وتلجأ سعاد فى اللحظة الأخيره الى حبيبها روجيه وتنتهى قصتها أو بمعنى أدق تبدأ الصفحة الجديدة من حياتها بمفاجأة ساره عندما تكتشف أن حبيبها من أصل جزائرى وأن والدته مسلمة جزائريه ، وينتهى دورهما بقراءتهما سويا لسورة الفاتحه تمهيدا لبدء حياتهما الجديدة معا .
أما أمل فتفاجىء بسفر كمال الى لبنان بعد استبعاد رئيس التحرير له من عمله دون أن تعلم السبب المباشر عن إختياره للبنان بالذات ويعدها قبل سفره بأ يكون معها عندما تريده .
وعندما تشفى من الرصاصة التى أطلقت عليها تقرر الإنتقام من بشاره وتذهب اليه بعدما أظهرت خضوعها له مبيتة النيه على التخلص منه ، وفى غمرة ممارسته للجنس معها تخرج مطواة من حقيبتها تضع بها حدا فاصلا لحياته ، ثم تخرج من حجرته شبه متماسكة وهى تخبر الحراس بأن زعيمهم نائم ويرغب فى أن لايوقظه أحد ، ثم تطلب من سائق السيارة أن يوصلها الى مطار شارل ديجول .
تعود أمل الى لبنان وتلتقى هناك بكمال ، وتذهب الى الكنيسة برفقته دون أن تعلم شيئا عن المفاجأة التى أعدها لها هناك وهى السبب الذى جعله يعود الى لبنان حيث قدم لها حبيبها الغائب الذى افتقدته فى غمار الحرب الأهليه .
تقف أمل حائرة بين كمال وبين حبيبها الذى إلتقته بعد غياب وتنهى المخرجة فيلمها على هذا المشهد التى تظهر فيه بطلتها حائرة بين حبيبيها تاركة لها حرية المفاضلة والاختيار فيما بينهم .
ركزت المخرجة على أهداف رئيسية أرادت أن توصلها الى الأذهان عن طريق أحداث الفيلم ، فهى ترى أن الحرية لا تتقيد ببعد جغرافى معين وانما يجب أن تكون نابعة من داخل الشخص الذى يبحث عنها .
وتقدم المخرجة توضيحا عمليا لإحدى وجهات نظرها عن العلاقة بين أسلوب ممارسة الجنس وأسلوب الحياة الذى يعيشه الشخص ، فهى تظهر أمل التى تعرضت لأنواع كثيرة من العنف خلال حياتها عنيفة مع شركائها أثناء ممارستها للجنس معهم ، بينما الفنانة عايده هادئة الطباع تظهرها تمارس الجنس بصوره هادئه تعبر عن طبعها الهادىء وحياتها المستقره ، فأسلوب ممارسة الجنس يعد مرآة لحياة كل شخص يمكن من خلاله معرفة أسلوب حياته وكيفية تفاعله مع الآخرين وقد تكون معبرة عما يجول فى خواطره وأعماقه دون أن يصرح هو بذالك ، فالجنس - فعلا - هو لغة يمكن التفاهم بها بين الشريكين عندما يعجز كل منهما عن الإفصاح عما فى داخله تجاه الآخر .
أما بالنسبة لمشاهد الجنس التى وردت ضمن أحداث الفيلم فإن الاعتراض عليها لمجرد انها مشاهد جنسيه يعد نوعا من وضع العراقيل أمام الأسلوب الذى يتبعه المخرج فى التعبير عن الرسالة التى يريد أن يوصلها من خلال الفيلم ، ومشاهد الجنس فى الفيلم لم تضعها المخرجة عبثا أو لجذب أكبر عدد من الجمهور الى شباك التذاكر - كما يدعى البعض - وإنما هى موظفة ضمن أحداث الفيلم وتخدم السياق الذى تقدمه لنا المخرجة فى الفيلم وإذا تم حذف هذه المشاهد من الفيلم فإنه سيصبح بلا معنى مفهوم لربطه بين الأحداث الرئيسيه فى الفيلم .
وتقدم لنا المخرجة صورة مؤسفة للأسلوب الذى يتعامل به العرب مع المكان الذى هاجروا اليه ، فهم لم يكتفوا بنقل أنفسهم الى هناك وإنما نقلوا معهم بعض أمراضهم المعدية التى جائوا بها معهم من المشرق العربى ، ويتضح هذا جليا فى المتاعب التى تعرضت لها كل فتاة من هؤلاء ، فجميع هذه المتاعب كان السبب الرئيسى فيها بعض أبناء جلدتهم من العرب ، بينما على العكس من ذالك تماما نجد الفرنسيين يمدون لهم يد العون ويساعدونهم على الترقى فى سلم الإبداع ويهنئونهم على نجاحاتهم التى حققوها هناك .
فالفيلم تجربة فريدة من نوعها بل هو مغامرة ناجحة خاضتها مخرجته فى جو خانق من افلا التردى الفكرى التى تسيطر على الساحه الفنيه حاليا ( اللمبى وعوكل وزكى شان وخلافه ...) ، وهو كذالك يعد كسرا للتابوهات العتيقه التى تقبع فى داخلها السينما العربيه التى يحرم عليها الاقتراب من الثلاثى المحرم الدين والسياسة والجنس ، فايناس فى فيلمها هذا إستطاعت تجاوز جميع الخطوط الحمراء ضاربة بمقص الرقيب وسلطة الحاكم وتقاليد العرب عرض الحائط .
ختاما : أهدى كل تحياتى الى الفنانة الكبيرة والمبدعة العظيمه إيناس الدغيدى متمنيا لها دوام التوفيق والاستمرار فى مشوارها الابداعى وأن نرى أعمالها دائما تتصدر قائمة الأعمال السينمائية معبرة بواقعية وصدق عما يجول فى خواطرنا وما تسرح فيه أخيلتنا كما عهدناها دائما .
عبدالكريم نبيل سليمان
الاسكندريه فى : 26/1/2001

Tuesday, January 25, 2005

إلى كل أنثى : أنت الحياة !!!

لن أنس حبك لحظة فالحب أرض لاتبور

الحب مفتاح الحياة ودونه نلج القبور

لولا لقاء يجمع العشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاق فى كنف السرير

ماعرفت الأرض الحياة وما سطا فيها كبير

* * * * *
أنت الحياة ..
بكل معناها ...
الجميل أو المرير .

أنت الضياء
لمقلتى ..
إن واجهت ...
عبث الدهور .

أنت الممجدة ..
المعظمة ..
المقدسة ...
المسببة السرور .

أنت الحياة ..
ولا حياة بدونك .

أنت الجمال ..
ولا جمال يفوقك .

أنت الزروع الخضر ..
فى المرج الكبير .

أنت الورود الحمر ..
ناشرة العبير .

* * * * *

أنت السماء ..
تظلنا.

أنت النجوم ..
ضياءنا .

أنت الجبال ..
حصوننا .

أنت النهير ..
بماءة العذب الزلال ...
يعيشنا .

أنت الجوار المنشآت ..
فى البحار ...
تقلنا ..
نحو بلاد المال والخير الوفير .

* * * * *

لا أصل يعلو ..
فوق أصلك أنت ..
يا أصل الحياة .

لا مجد يسمو ..
فوق سؤددك ...
المعلى للجباة .

لا شىء يوزن ..
بابتسامة ثغرك الوضاء ...
فى ظل الشفاه .

لا حب يسمو ..
فوق حبك أنت للدنيا ..
وإيثار الحياة ...
لجميع من فى الأرض ..
للإنسان ..
للطفل الصغير .
* * * * *
قد هرول الرسام نحوك ..
يستشف ..
مفاتن النهد الكبير .

وتقاطر الشعراء حولك ..
ينظمون ..
قصلئد الشعر الحرير .

وتفننوا ..
وتسابقوا ..
فى سبر أغوار الجمال المستدير .

وتخيلوك على الفراش ..
ذليلة ..
مثل الأسير .

وتصوروك .. كدمية ..
يلهو بها ..
الطفل الصغير .

وتغافلوك أميرة ..
فى ظل غابرة الدهور .

وتجاهلوا مجد النساء ..
وعزهم .. عبر العصور .

ونسوا إرادتك التى ..
قد زحزحت ..عرش النسور .

تبا لهم ..
ياويلهم ..
قد ركزوا أنظارهم ..
عند المظاهر والقشور .

ونأوا بأعينهم بعيدا ..
عن كبارات الأمور .

* * * * *

لن أنس حبك ..
ماحييت ..
فأنت لى معنى السرور .

لولاك ..
ماخط المداد ..
حروفها .. فوق السطور .

لولاك ..
ماعشت الحياة ..
وما وجدت .. ولا أصير .

أنت الحياة ..
بحبها .. وبسحرها ..
وجنونها ..
وبغشها .. وخداعها ..
وجمالها .. وبقبحها .
أنت الحياة ..
بكل معناها ..
الجميل أو المرير .

لولاك ..
ماكنا نرجى ..
أن نعيش .. وأن نصير .

وبدون حبك ..
يختفى معنى الحياة .

ويصير بيت المرء ..
كالقبر المدخن بالبخور .

وبدون حبك ..
يختفى لون الورود .

ويصير وجه الأرض ..
مغبرا .. قبيحا .. قاتما ..
كفراء فئران الجحور .

لولاك ..
مابكت السماء ..
وفجرت صم الصخور .

لولاك ..
مانبتت بأدمعها ..
شجيرات الزهور .

لولاك ..
ماعاش الذكور ..
وتملكوا زمم الأمور .

* * * * *
لولاك .. ماقام للإنسان قائمة وما إستمر بقاء الناس أحقابا

ففى العلا أنت حيث المجد خالدة وهل له المجد إلا كل وثابا ؟!

إلى كل أنثى : أنت الحياة !!!

لن أنس حبك لحظة فالحب أرض لاتبور

الحب مفتاح الحياة ودونه نلج القبور

لولا لقاء يجمع العشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاق فى كنف السرير

ماعرفت الأرض الحياة وما سطا فيها كبير

* * * * *
أنت الحياة ..
بكل معناها ...
الجميل أو المرير .

أنت الضياء
لمقلتى ..
إن واجهت ...
عبث الدهور .

أنت الممجدة ..
المعظمة ..
المقدسة ...
المسببة السرور .

أنت الحياة ..
ولا حياة بدونك .

أنت الجمال ..
ولا جمال يفوقك .

أنت الزروع الخضر ..
فى المرج الكبير .

أنت الورود الحمر ..
ناشرة العبير .

* * * * *

أنت السماء ..
تظلنا.

أنت النجوم ..
ضياءنا .

أنت الجبال ..
حصوننا .

أنت النهير ..
بماءة العذب الزلال ...
يعيشنا .

أنت الجوار المنشآت ..
فى البحار ...
تقلنا ..
نحو بلاد المال والخير الوفير .

* * * * *

لا أصل يعلو ..
فوق أصلك أنت ..
يا أصل الحياة .

لا مجد يسمو ..
فوق سؤددك ...
المعلى للجباة .

لا شىء يوزن ..
بابتسامة ثغرك الوضاء ...
فى ظل الشفاه .

لا حب يسمو ..
فوق حبك أنت للدنيا ..
وإيثار الحياة ...
لجميع من فى الأرض ..
للإنسان ..
للطفل الصغير .
* * * * *
قد هرول الرسام نحوك ..
يستشف ..
مفاتن النهد الكبير .

وتقاطر الشعراء حولك ..
ينظمون ..
قصلئد الشعر الحرير .

وتفننوا ..
وتسابقوا ..
فى سبر أغوار الجمال المستدير .

وتخيلوك على الفراش ..
ذليلة ..
مثل الأسير .

وتصوروك .. كدمية ..
يلهو بها ..
الطفل الصغير .

وتغافلوك أميرة ..
فى ظل غابرة الدهور .

وتجاهلوا مجد النساء ..
وعزهم .. عبر العصور .

ونسوا إرادتك التى ..
قد زحزحت ..عرش النسور .

تبا لهم ..
ياويلهم ..
قد ركزوا أنظارهم ..
عند المظاهر والقشور .

ونأوا بأعينهم بعيدا ..
عن كبارات الأمور .

* * * * *

لن أنس حبك ..
ماحييت ..
فأنت لى معنى السرور .

لولاك ..
ماخط المداد ..
حروفها .. فوق السطور .

لولاك ..
ماعشت الحياة ..
وما وجدت .. ولا أصير .

أنت الحياة ..
بحبها .. وبسحرها ..
وجنونها ..
وبغشها .. وخداعها ..
وجمالها .. وبقبحها .
أنت الحياة ..
بكل معناها ..
الجميل أو المرير .

لولاك ..
ماكنا نرجى ..
أن نعيش .. وأن نصير .

وبدون حبك ..
يختفى معنى الحياة .

ويصير بيت المرء ..
كالقبر المدخن بالبخور .

وبدون حبك ..
يختفى لون الورود .

ويصير وجه الأرض ..
مغبرا .. قبيحا .. قاتما ..
كفراء فئران الجحور .

لولاك ..
مابكت السماء ..
وفجرت صم الصخور .

لولاك ..
مانبتت بأدمعها ..
شجيرات الزهور .

لولاك ..
ماعاش الذكور ..
وتملكوا زمم الأمور .

* * * * *
لولاك .. ماقام للإنسان قائمة وما إستمر بقاء الناس أحقابا

ففى العلا أنت حيث المجد خالدة وهل له المجد إلا كل وثابا ؟!

Thursday, January 13, 2005

الغزوات الفكريه : كيف نتعامل معها ؟

عندما يواجة الإنسان تهديدا ما ، فإنة يسارع نحو دفعة بشتى السبل ومختلف الطرق المتاحة لة ، وقد يلجأ الى إمكانياتة الشخصية إن كانت قادرة على دفع هذا التهديد ، أو قد يلجأ إلى من حولة من الناس كى يشاركونه فى دفع هذا التهديد ودرء مخاطرة عنه .
هذا إذا كان التهديد مقدورا على دفعه بالطرق العاديه بمعنى أنه أقل شدة من الوسائل التى سوف تستخدم فى التعامل معة ، أو بمعنى آخر : كونة مقدورا على إحتوائة واستيعابه من قبل الشخص أو الأشخاص الذين يواجهون هذا التهديد .
أما إذا كان التهديد غير مقدور على دفعة بالطرق العادية كونه قد إتخذ وضعا يفوق إمكانيات الأشخاص فى التعامل معه وتحجيمة ، فإنة لا يمكن اللجوء الى الطرق العادية فى التعامل معه بل يجب - فى هذا الإطار - استخدام أساليب مبتكرة ووسائل غير مألوفه يتم التعامل معه من خلالها كنوع من التجربه التى قد تنجح فيزول التهديد وتتلاشى آثارة ، أو قد يفشل فيلجأ الإنسان الى أسلوب جديد وطريقة أخرى أكثر تطورا وابتكارا للتعامل مع هذا التهديد وآثارة .
فهناك تهديدات كثيرة تواجة المجتمع البشرى - ككل - فى الوقت الحاضر ، بعضها سهل الاستيعاب يمكن التعامل معة ودرء مخاطره بسهولة ، وذالك كالتهديدات المادية المتمثلة فى الأخطار الطبيعيه والهزات الأرضيه والأمواج المدمره وغيرها ، والبعض الآخر لا يمكن التعامل معه بالطرق العاديه المألوفه ، بل يجب التعامل معه باستخدام وسائل مبتكره لمواجهته ودرء مخاطره والتغلب عليه وهذا النوع من التهديدات يتمثل فى التهديدات الثقافية أو الغزو الفكرى - كما يحلو للبعض أن يسمى -
فهذا النوع من التهديدات ليس من السهولة بدرجة أنة يمكننا التعامل معة بنفس الأساليب التى يواجه بها النوع الأول ، لأنة لايوجة الى الأشياء المادية بقدر مايوجة الى العقل البشرى وإن إمتدت آثاره - فيما بعد - لتشمل أبعادا ماديه إلا أن هدفه الأول هو الفكر وليس الماده ، ولذالك فإنه لا يمكننا التعامل مع التهديدين بالطريقة نفسها ، فلا يمكننا مثلا أن نعلن الحرب على شعب ما بحجة أنة يعتنق فكرا معينا ، وكذالك فإنة ليس من المعقول أن ننقذ ضحايا الغزوات الفكرية بالطريقة التى ننقذ بها ضحايا أمواج " تسونامى " على سبيل المثال .
فكما نتعمل مع التهديدات المادية بأساليب مادية ، كذالك ينبغى أن نتعامل مع التهديدات الثقافية بأساليب عقلانية فكرية مبتكرة وقابلة للتطور ، إذ أن الفكرة تتميز بمرونتها وسرعة تطورها الأمر الذى يجعلها قادرة على التعامل مع أى نوع من هذة التهديدات مهما تلون جلدة وارتدى ثياب الحرباء ، إذ أن الفكرة قادرة - فى الوقت ذاته - على إتباع نفس الأسلوب والتلون بشتى الألوان ومسايرة مختلف الاتجاهات ومن ثم فهى فى النهاية قادرة على إبتلاع وهضم هذة الأفكار الغازية المهدده ، وإبطال مفعولها وإزالة تهديدها ، بل وقادرة أيضا على إنقاذ ضحاياها - إن وجدوا - الأمر الذى يعطيها فعالية عالية وقدرة فائقة على مواجهة مختلف التحديات والتغلب على شتى التهديدات الفكرية التى تواجه الجنس البشرى .
ولقد أثبت التاريخ فشل الحكام فى إنهاء التهديدات الفكرية عن طريق القمع والإرهاب ، وفشلت كافة السجون وعجزت أعواد المشانق ويأست مختلف وسائل الاضطهاد والتعذيب من منع إنتشار الأفكار التى يرفضها بعض أفراد الجماعة المسيطرين عليها ، بل إن هذه الأساليب أعطت لهذة الأفكار الأهمية الفائقة وجعلت الكثيرين ييعتنقونها كمبادىء ويؤمنون بها كأسس يبنون عليها حياتهم ، بل ودفعت هذة الأساليب الكثيرين ممن كانوا يشاركون فى قمع أصحاب هذة الأفكار إالى مراجعة موقفهم ، أو فى أحيان كثيرة التراجع عن موقفهم تجاه هذا الفكر بشكل تام ، بل قد أدى ذالك - أحيانا - إلى اعتناق بعض هؤلاء لهذا الفكر الذى كان فى يوم من الأيام يشنون علية حربا ضروسا ويحاولون إخماد جزوتة بمختلف الوسائل والحيل .
ومن هنا يتضح لنا جليا أن المواجهه مع فكر معين لا يمكن أن تؤتى ثمارها الا عن طريق استخدام فكر مضاد ، فجميع الوسائل المادية بدءا من الإضطهاد الفكرى وانتهاءا بالتخلص من معتنقى هذا الفكر لا يمكنها أن تؤدى الى التخلص من هذا الفكر بقدر ماتساهم مساهمة فعالة فى تدعيمه وتقويته وزيادة ترسيخة فى العقول ، فالأسلوب المادى فى محاربة الفكر يعد غباءا مستحكما من قبل الذين يعتمدونه كوسيلة يتم بها التعامل مع الفكر الغير مرغوب فيه إذ أنهم بهذة الأساليب يسلكون الطريق العكسى ، ويساعدون على بناء وتقوية وتدعيم هذا الفكر الأمر الذى يتناقض مع وسائلهم الهادفة الى محو هذا الفكر وإزالة آثاره .
فعندما واجهت الولايات المتحده الفكر الإسلامى المتطرف بإعلانها الحرب على أفغانستان وتعقب أسامة بن لادن وماتلا ذالك من إعتداءات على دول عربية أخرى ، فإنها لم تصل الى النتيجة التى كانت تتغياها بإزالة هذا الفكر وأتباعة من الوجود بقدر ماساعدت على انتشار هذا الفكر بصورة مزعجة تجعلنا نستغرب ونضع الملايين من علامات الاستفهام والتعجب أمام التناقض الواضح بين الأهداف والنتائج الشىء الذى لم تصنعة الصدف البحتة بل هو الواقع الذى سبق تكراره فى عصور مختلفه سابقة ، الأمر الذى يثبت لنا عدم فعالية المواجهة الماديه مع الفكر بل إن نتائج هذة المواجهة تكون - فى الغالب - معاكسة للأهداف التى تم استخدام هذه الوسائل الماديه لتحقيقها .
ومن هنا فإنة لابد من استخدام لغة الحوار فى التعامل مع الأفكار الوافده ومحاولة الاقتناع بها أو رفضها وردها عن طريق أفكار مضاده تزيل فعاليتها وتمحو من العقول آثارها ، وهذة هى الوسيلة الوحيدة الفعالة فى مقامة التهديدات الفكريه التى قد يرفضها بعض أفراد الجماعة البشرية ، ويرون أنها قد تضر بالصالح العام للجماعه ، ولكن رفض هذا البعض للفكره لايعنى - بالضرورة - رفض فض جميع أفراد الجماعة لها ، فقد يعتنقها البعض اقتناعه بها ويرفضها البعض مكابرة أو لعدم قدرته على إقناع نفسه بها ، ومن ثم كان لابد من تحقيق التوازن داخل الجماعة البشرية بين معتنقى الفكرة ورافضيها .
فالفكرة - فى معظم الأحيان - لاتقتصر على كونها شيئا معنويا قد يطول الورق عن طريق حبر الكتابه ، وانما تتعدى الفكرة هذه الحدود لتترك آثارا ماديه على بعض الجوانب الحياتيه لبعض أو لكل أفراد الجماعه البشرية .
ومن هنا فإنه يلزم التفريق بين بعض الأفكار وبعضها الآخر على أساس مدى امتداد آثارها الى بقية أفراد الجماعة البشرية ، فبعض الأفكار لا تتعدى آثارها المادية حدود الشخص الذى يعتنقها ويؤمن بها كالأفكار المتعلقه بأمور شخصية جدا خاصه بإنسان ما ، فإن حدود هذه الأفكار لاتتعدى حدود تعامل هذا الشخص مع نفسه ولا تتجاوز حريته الشخصيه ولا تمتد آثارها الى من حوله من الناس ، فهذه الأشياء الماديه الشخصيه المترتبه على أفكار معينه يعتنقها إنسان معين ويؤمن بها لا يمكننا الإدلاء برأينا فيها بالرفض أو القبول لأنها لا تعنينا فى شىء .
وهناك بعض الأفكار التى تمتد آثارها الماديه لتشمل التعاملات المشتركه بين الناس ، وهنا يجب أن نميز بين نوعين مختلفين من الأفكار التى تمتد آثارها لتشمل أكثر من فرد من أفراد الجماعه البشريه ، فبعض الأفكار تترتب آثارها على بعض أفراد الجماعه كرغبة شخصين فى إقامة علاقة عاطفيه أو جنسيه ، أو اتجاه بعض الأفراد للتفكير فى الاشتراك فى عمل ما وغير ذالك من العلاقات المبنيه على أسس فكريه والتى تمتد آثارها لتشمل أكثر من فرد من أفراد المجتمع - وليس جميع أفراده - ، فهذه الأفكار يمكننا الحكم عليها بالقبول أو بالرفض على أساس مدى تقبل جميع الأفراد المكونين لهذه العلاقه للفكره أو عدم تقبل بعضهم لها ، فلكى يصح التطبيق العملى لمضمون هذه الفكره على أفراد معينين يلزم لذالك موافقة كل فرد - على حده - على هذه الفكره وإلا استبعد من هذة العلاقه .
أما إذا امتدت الآثار الماديه للفكره لتشمل جميع أفراد الجماعه ، فإنه - وفى هذة الحاله - لايشترط لتطبيبق هذه الفكره موافقة جميع أفراد الجماعه بلا إستثناء ، إذ أن هذه الموافقه الجماعيه تعد من رابع المستحيلات لإختلاف الطباع والأفكار والرغبات من شخص الى آخر ، ولذا فإنه يجب عند تطبيق هذه الفكره موافقة غالبية أفراد الجماعة عليها حتى وإن لم تكن الأغلبية مطلقه فإن الهدف من تحقيق هذه الأغلبيه يكمن فى محاولة إكساب هذه الفكره قدرا من المشروعيه عند تطبيقها على جميع أفراد الجماعه وذالك كفكرة ضرورة وجود حاكم على رأس كل جماعة بشريه ، فإن إختيار مثل هذا الحاكم قد يختلف من شخص الى آخر على حسب رغبة كل منهم فى إختيار الشخص الذى يمثله فى القيام بهذه المهمه ، فمن ثم فإن موافقة جميع أفراد الجماعه على إختيار شخص معين تعد غير ممكنه ، ولذا لزم موافقة الغالبية من أفراد الجماعه على تعيين شخص معين حتى وإن إختار بعض الأفراد الذين لايمثلون الأغلبيه فردا آخر فإن هذا لايعنى وجوب تطببيق الأثر المادى لرغبتهم الفكرية فى هذا الاطار لأن هذا الأمر يشمل جميع أفراد الجماعه وليس فردا واحدا أو مجموعة أفراد قليلة العدد .
ومن ثم فإن قبول الفكره عند أفراد الجماعه أو ردها يتوقف على المدى الذى تصل اليه آثارها الماديه على النحو السالف بيانه والذى يبنى على أسس ومبادىء فكرية محضه ، الأمر الذى ينفى مادية التعامل مع الفكر ويجعل من التعامل المادى معه أسلوبا سقيما عاجزا عن مواجهة الفكر والقضاء عليه الأمر الذى يهدف اليه الأسلوب المادى المتبع ، مما يجعلنا نؤمن بضرورة المواجهه الفكريه والحوار الجاد بين الأفكار المختلفه ومحاولة موازنتها بمصالح أفراد المجتمع وعدم مواجهتها بالطرق العنيفه التى قد تمنحها حقا ليست له أهلا ، وقد تعطيها مكانة لا تليق بها الأمر الذى قد يؤدى إلى الانتشار السلبي لهذه الفكره ومن ثم لا تكون معبرة عن التفكير المنطقى الصحيح من قبل الأفراد ، بل قد تعتنق كنوع من استكشاف الجديد دون الإقتناع التام به الأمر الذى يضفى على معتنقيها طابع التشدد فى فهمها ويجعلهم يستخدمونها استخداما أعمى على غير إقتناع بالمضمون الفكرى الحقيقى لها .

الغزوات الفكريه : كيف نتعامل معها ؟

عندما يواجة الإنسان تهديدا ما ، فإنة يسارع نحو دفعة بشتى السبل ومختلف الطرق المتاحة لة ، وقد يلجأ الى إمكانياتة الشخصية إن كانت قادرة على دفع هذا التهديد ، أو قد يلجأ إلى من حولة من الناس كى يشاركونه فى دفع هذا التهديد ودرء مخاطرة عنه .
هذا إذا كان التهديد مقدورا على دفعه بالطرق العاديه بمعنى أنه أقل شدة من الوسائل التى سوف تستخدم فى التعامل معة ، أو بمعنى آخر : كونة مقدورا على إحتوائة واستيعابه من قبل الشخص أو الأشخاص الذين يواجهون هذا التهديد .
أما إذا كان التهديد غير مقدور على دفعة بالطرق العادية كونه قد إتخذ وضعا يفوق إمكانيات الأشخاص فى التعامل معه وتحجيمة ، فإنة لا يمكن اللجوء الى الطرق العادية فى التعامل معه بل يجب - فى هذا الإطار - استخدام أساليب مبتكرة ووسائل غير مألوفه يتم التعامل معه من خلالها كنوع من التجربه التى قد تنجح فيزول التهديد وتتلاشى آثارة ، أو قد يفشل فيلجأ الإنسان الى أسلوب جديد وطريقة أخرى أكثر تطورا وابتكارا للتعامل مع هذا التهديد وآثارة .
فهناك تهديدات كثيرة تواجة المجتمع البشرى - ككل - فى الوقت الحاضر ، بعضها سهل الاستيعاب يمكن التعامل معة ودرء مخاطره بسهولة ، وذالك كالتهديدات المادية المتمثلة فى الأخطار الطبيعيه والهزات الأرضيه والأمواج المدمره وغيرها ، والبعض الآخر لا يمكن التعامل معه بالطرق العاديه المألوفه ، بل يجب التعامل معه باستخدام وسائل مبتكره لمواجهته ودرء مخاطره والتغلب عليه وهذا النوع من التهديدات يتمثل فى التهديدات الثقافية أو الغزو الفكرى - كما يحلو للبعض أن يسمى -
فهذا النوع من التهديدات ليس من السهولة بدرجة أنة يمكننا التعامل معة بنفس الأساليب التى يواجه بها النوع الأول ، لأنة لايوجة الى الأشياء المادية بقدر مايوجة الى العقل البشرى وإن إمتدت آثاره - فيما بعد - لتشمل أبعادا ماديه إلا أن هدفه الأول هو الفكر وليس الماده ، ولذالك فإنه لا يمكننا التعامل مع التهديدين بالطريقة نفسها ، فلا يمكننا مثلا أن نعلن الحرب على شعب ما بحجة أنة يعتنق فكرا معينا ، وكذالك فإنة ليس من المعقول أن ننقذ ضحايا الغزوات الفكرية بالطريقة التى ننقذ بها ضحايا أمواج " تسونامى " على سبيل المثال .
فكما نتعمل مع التهديدات المادية بأساليب مادية ، كذالك ينبغى أن نتعامل مع التهديدات الثقافية بأساليب عقلانية فكرية مبتكرة وقابلة للتطور ، إذ أن الفكرة تتميز بمرونتها وسرعة تطورها الأمر الذى يجعلها قادرة على التعامل مع أى نوع من هذة التهديدات مهما تلون جلدة وارتدى ثياب الحرباء ، إذ أن الفكرة قادرة - فى الوقت ذاته - على إتباع نفس الأسلوب والتلون بشتى الألوان ومسايرة مختلف الاتجاهات ومن ثم فهى فى النهاية قادرة على إبتلاع وهضم هذة الأفكار الغازية المهدده ، وإبطال مفعولها وإزالة تهديدها ، بل وقادرة أيضا على إنقاذ ضحاياها - إن وجدوا - الأمر الذى يعطيها فعالية عالية وقدرة فائقة على مواجهة مختلف التحديات والتغلب على شتى التهديدات الفكرية التى تواجه الجنس البشرى .
ولقد أثبت التاريخ فشل الحكام فى إنهاء التهديدات الفكرية عن طريق القمع والإرهاب ، وفشلت كافة السجون وعجزت أعواد المشانق ويأست مختلف وسائل الاضطهاد والتعذيب من منع إنتشار الأفكار التى يرفضها بعض أفراد الجماعة المسيطرين عليها ، بل إن هذه الأساليب أعطت لهذة الأفكار الأهمية الفائقة وجعلت الكثيرين ييعتنقونها كمبادىء ويؤمنون بها كأسس يبنون عليها حياتهم ، بل ودفعت هذة الأساليب الكثيرين ممن كانوا يشاركون فى قمع أصحاب هذة الأفكار إالى مراجعة موقفهم ، أو فى أحيان كثيرة التراجع عن موقفهم تجاه هذا الفكر بشكل تام ، بل قد أدى ذالك - أحيانا - إلى اعتناق بعض هؤلاء لهذا الفكر الذى كان فى يوم من الأيام يشنون علية حربا ضروسا ويحاولون إخماد جزوتة بمختلف الوسائل والحيل .
ومن هنا يتضح لنا جليا أن المواجهه مع فكر معين لا يمكن أن تؤتى ثمارها الا عن طريق استخدام فكر مضاد ، فجميع الوسائل المادية بدءا من الإضطهاد الفكرى وانتهاءا بالتخلص من معتنقى هذا الفكر لا يمكنها أن تؤدى الى التخلص من هذا الفكر بقدر ماتساهم مساهمة فعالة فى تدعيمه وتقويته وزيادة ترسيخة فى العقول ، فالأسلوب المادى فى محاربة الفكر يعد غباءا مستحكما من قبل الذين يعتمدونه كوسيلة يتم بها التعامل مع الفكر الغير مرغوب فيه إذ أنهم بهذة الأساليب يسلكون الطريق العكسى ، ويساعدون على بناء وتقوية وتدعيم هذا الفكر الأمر الذى يتناقض مع وسائلهم الهادفة الى محو هذا الفكر وإزالة آثاره .
فعندما واجهت الولايات المتحده الفكر الإسلامى المتطرف بإعلانها الحرب على أفغانستان وتعقب أسامة بن لادن وماتلا ذالك من إعتداءات على دول عربية أخرى ، فإنها لم تصل الى النتيجة التى كانت تتغياها بإزالة هذا الفكر وأتباعة من الوجود بقدر ماساعدت على انتشار هذا الفكر بصورة مزعجة تجعلنا نستغرب ونضع الملايين من علامات الاستفهام والتعجب أمام التناقض الواضح بين الأهداف والنتائج الشىء الذى لم تصنعة الصدف البحتة بل هو الواقع الذى سبق تكراره فى عصور مختلفه سابقة ، الأمر الذى يثبت لنا عدم فعالية المواجهة الماديه مع الفكر بل إن نتائج هذة المواجهة تكون - فى الغالب - معاكسة للأهداف التى تم استخدام هذه الوسائل الماديه لتحقيقها .
ومن هنا فإنة لابد من استخدام لغة الحوار فى التعامل مع الأفكار الوافده ومحاولة الاقتناع بها أو رفضها وردها عن طريق أفكار مضاده تزيل فعاليتها وتمحو من العقول آثارها ، وهذة هى الوسيلة الوحيدة الفعالة فى مقامة التهديدات الفكريه التى قد يرفضها بعض أفراد الجماعة البشرية ، ويرون أنها قد تضر بالصالح العام للجماعه ، ولكن رفض هذا البعض للفكره لايعنى - بالضرورة - رفض فض جميع أفراد الجماعة لها ، فقد يعتنقها البعض اقتناعه بها ويرفضها البعض مكابرة أو لعدم قدرته على إقناع نفسه بها ، ومن ثم كان لابد من تحقيق التوازن داخل الجماعة البشرية بين معتنقى الفكرة ورافضيها .
فالفكرة - فى معظم الأحيان - لاتقتصر على كونها شيئا معنويا قد يطول الورق عن طريق حبر الكتابه ، وانما تتعدى الفكرة هذه الحدود لتترك آثارا ماديه على بعض الجوانب الحياتيه لبعض أو لكل أفراد الجماعه البشرية .
ومن هنا فإنه يلزم التفريق بين بعض الأفكار وبعضها الآخر على أساس مدى امتداد آثارها الى بقية أفراد الجماعة البشرية ، فبعض الأفكار لا تتعدى آثارها المادية حدود الشخص الذى يعتنقها ويؤمن بها كالأفكار المتعلقه بأمور شخصية جدا خاصه بإنسان ما ، فإن حدود هذه الأفكار لاتتعدى حدود تعامل هذا الشخص مع نفسه ولا تتجاوز حريته الشخصيه ولا تمتد آثارها الى من حوله من الناس ، فهذه الأشياء الماديه الشخصيه المترتبه على أفكار معينه يعتنقها إنسان معين ويؤمن بها لا يمكننا الإدلاء برأينا فيها بالرفض أو القبول لأنها لا تعنينا فى شىء .
وهناك بعض الأفكار التى تمتد آثارها الماديه لتشمل التعاملات المشتركه بين الناس ، وهنا يجب أن نميز بين نوعين مختلفين من الأفكار التى تمتد آثارها لتشمل أكثر من فرد من أفراد الجماعه البشريه ، فبعض الأفكار تترتب آثارها على بعض أفراد الجماعه كرغبة شخصين فى إقامة علاقة عاطفيه أو جنسيه ، أو اتجاه بعض الأفراد للتفكير فى الاشتراك فى عمل ما وغير ذالك من العلاقات المبنيه على أسس فكريه والتى تمتد آثارها لتشمل أكثر من فرد من أفراد المجتمع - وليس جميع أفراده - ، فهذه الأفكار يمكننا الحكم عليها بالقبول أو بالرفض على أساس مدى تقبل جميع الأفراد المكونين لهذه العلاقه للفكره أو عدم تقبل بعضهم لها ، فلكى يصح التطبيق العملى لمضمون هذه الفكره على أفراد معينين يلزم لذالك موافقة كل فرد - على حده - على هذه الفكره وإلا استبعد من هذة العلاقه .
أما إذا امتدت الآثار الماديه للفكره لتشمل جميع أفراد الجماعه ، فإنه - وفى هذة الحاله - لايشترط لتطبيبق هذه الفكره موافقة جميع أفراد الجماعه بلا إستثناء ، إذ أن هذه الموافقه الجماعيه تعد من رابع المستحيلات لإختلاف الطباع والأفكار والرغبات من شخص الى آخر ، ولذا فإنه يجب عند تطبيق هذه الفكره موافقة غالبية أفراد الجماعة عليها حتى وإن لم تكن الأغلبية مطلقه فإن الهدف من تحقيق هذه الأغلبيه يكمن فى محاولة إكساب هذه الفكره قدرا من المشروعيه عند تطبيقها على جميع أفراد الجماعه وذالك كفكرة ضرورة وجود حاكم على رأس كل جماعة بشريه ، فإن إختيار مثل هذا الحاكم قد يختلف من شخص الى آخر على حسب رغبة كل منهم فى إختيار الشخص الذى يمثله فى القيام بهذه المهمه ، فمن ثم فإن موافقة جميع أفراد الجماعه على إختيار شخص معين تعد غير ممكنه ، ولذا لزم موافقة الغالبية من أفراد الجماعه على تعيين شخص معين حتى وإن إختار بعض الأفراد الذين لايمثلون الأغلبيه فردا آخر فإن هذا لايعنى وجوب تطببيق الأثر المادى لرغبتهم الفكرية فى هذا الاطار لأن هذا الأمر يشمل جميع أفراد الجماعه وليس فردا واحدا أو مجموعة أفراد قليلة العدد .
ومن ثم فإن قبول الفكره عند أفراد الجماعه أو ردها يتوقف على المدى الذى تصل اليه آثارها الماديه على النحو السالف بيانه والذى يبنى على أسس ومبادىء فكرية محضه ، الأمر الذى ينفى مادية التعامل مع الفكر ويجعل من التعامل المادى معه أسلوبا سقيما عاجزا عن مواجهة الفكر والقضاء عليه الأمر الذى يهدف اليه الأسلوب المادى المتبع ، مما يجعلنا نؤمن بضرورة المواجهه الفكريه والحوار الجاد بين الأفكار المختلفه ومحاولة موازنتها بمصالح أفراد المجتمع وعدم مواجهتها بالطرق العنيفه التى قد تمنحها حقا ليست له أهلا ، وقد تعطيها مكانة لا تليق بها الأمر الذى قد يؤدى إلى الانتشار السلبي لهذه الفكره ومن ثم لا تكون معبرة عن التفكير المنطقى الصحيح من قبل الأفراد ، بل قد تعتنق كنوع من استكشاف الجديد دون الإقتناع التام به الأمر الذى يضفى على معتنقيها طابع التشدد فى فهمها ويجعلهم يستخدمونها استخداما أعمى على غير إقتناع بالمضمون الفكرى الحقيقى لها .